صفقة الغاز بين تل أبيب والقاهرة تعيد تشكيل شرق المتوسط
لبنانون فايلز -

في شرق المتوسّط، لا تُقاس الصفقات بالأرقام وحدها، بل بما تُعيد ترتيبه من خرائط النفوذ وخطوط الإمداد. صفقة الغاز بين تل أبيب والقاهرة، التي وُصِفَت بأنّها الأكبر في تاريخ إسرائيل، بقيمةٍ إجماليّة تُقدَّر بنحو 35 مليار دولار وبتعهّد توريد يصل إلى 130 مليار متر مكعّب من الغاز حتى عام 2040 تحديدًا من حقل "ليفياثان"، تختصر لحظةً إقليميّةً حسّاسة: دولةٌ مُنتِجة تبحث عن تعظيم العائدات وتثبيت دورها السياسيّ، ودولةٌ محوريّةٌ كبرى تُحاول سدّ فجوةٍ طاقويّةٍ مُكلفة وإعادة تثبيت صورة "المركز" في تجارة الغاز المُسال، فيما تقف دولٌ أخرى على الهامش، أبرزها لبنان، وتُراقب من خارج "اللعبة" التي تُصاغ قواعدها بأنابيب تحت الرمال وبعقود طويلة الأجل.

في الظاهر هي صفقة بيع وشراء. في العمق هي تثبيتٌ لمسارٍ إقليميّ يتعامل مع الطاقة كأداة إعادة تموضع اقتصادي وأمني في آن. لكنّ السؤال الذي يفرض نفسه: لماذا الآن ولماذا بهذه الصيغة الطويلة ومن الرابح فعليًّا ومن يدفع فاتورة المخاطر؟

ماذا تعني "مرونة الأسعار"؟

منطق العقود الطويلة يقوم على فكرتين: ضمان تصريف الإنتاج وضمان أمن الإمداد. إسرائيل تحتاج سوقًا مستقرًّا يحدّ من تقلبات الطلب والأسعار. ومصر تحتاج مصدرًا يُعوِّض الفجوات المحليّة ويخفّف ضغط الاستيراد ويؤمّن وقود الكهرباء والصناعة مع فرصة لرفع تصدير الغاز المُسال. لكنّ القاهرة لا تُخفي أنّ السعر سيكون معركة لاحقة. الإشارات إلى إمكان إعادة النظر في أسعار التوريد اعتبارًا من كانون الثاني 2027 تعني "نافذة مراجعة" تمنع تحوّل العقد إلى قيدٍ ماليّ فيما تريد إسرائيل "قفل" سوقٍ إقليميّ بعقدٍ مديد يعزّز التخطيط والتمويل.

حقل "ليفياثان" تشغّله “نيوميد” و"شيفرون" ما يجعل الصفقة جزءًا من شبكة مصالح أوسع. وجود شركة أميركية عملاقة في التشغيل يربط الاتفاق بالحسابات الأميركية في شرق المتوسّط من حماية الاستثمارات إلى ضبط مسارات الطاقة. لذلك تُفهم لغة "الاستقرار" التي روّج لها نتنياهو كتسويقٍ لاتفاق داخل هندسة إقليمية تُكافأ عادةً بالتسهيل السياسي والاقتصادي. وبالنسبة إلى مصر وجود “شيفرون” يمنح الاتفاق ضمانًا من حيث التمويل والالتزام لكنه يُدخل عنصرًا خارجيًّا في حسابات الطاقة الوطنيّة.

العنصر الحاسم ليس الرقم فقط بل الطريق. التنفيذ يعتمد على شبكة الأنابيب مع أنبوب جديد يمرّ عبر سيناء من جنوب غرب إسرائيل عبر النقب إلى مصر من جهة شرق سيناء. في سيناء يُقرأ ذلك كترتيبٍ أمنيّ لأنّ التمويل لا ينفصل عن الغطاء العسكري. هكذا تُنتج الصفقة "اعتماديّة متبادلة" مصر تحتاج تدفّقًا ثابتًا لتفادي أزمة كهرباء وكلفة استيراد وإسرائيل تحتاج مسارًا مضمونًا يدرّ عائدات منتظمة ومع تعاظم الاعتماديّة ترتفع كلفة أي مغامرة تهدّد التدفقات.

استمرار لا انعطاف

يضع الخبير اللبناني في شؤون الطاقة الدكتور رودي بارودي الصفقة في حديثه إلى "المدن" في خانة الاستمرار لا الانعطاف. يقول بارودي إنّ "لا شيء جديدًا في التعاون بين مصر وإسرائيل ولا سيّما في مجال الطاقة". ويذكّر بأنّ هذا التعاون "بدأ منذ عام 2008" عندما كانت مصر تُصدّر الغاز إلى إسرائيل ضمن ترتيبات مرتبطة بقطاع الطاقة. ثم اتّسع المسار لاحقًا وخصوصًا بعد اكتشاف حقل "ظُهر" عام 2015 الذي منح القاهرة لفترة شعورًا بأنّها تملك فائضًا يسمح لها بتصدير الغاز وتثبيت موقعها كمركزٍ إقليمي.

غير أنّ بارودي يلفت إلى أنّ الصورة تغيّرت في السنوات الأخيرة. فمنذ عام 2023 بدأت تظهر مشكلات متزايدة في قطاع الطاقة ويشير إلى أنّ "تراجع إنتاج ظُهر بنسبة تُقدَّر بنحو 20 إلى 25 في المئة" كان سببًا رئيسيًّا في إعادة الضغط على الإمدادات. من هنا يرى أنّ إدخال كميات إضافيّة من الغاز عبر إسرائيل يأتي لتعويض النقص وضبط السوق الداخلي. ويضيف أنّه عندما تستقر عملية توريد الغاز من إسرائيل إلى مصر سيصبح القطاع أكثر ثباتًا على مستوى علاقات المنطقة” وستزداد قدرة مصر على تلبية احتياجات الكهرباء والصناعة بما يتيح وفرةً أكبر من الغاز ويعزّز فرص التصدير والنقد الأجنبي.

من يجلس على الطاولة يحدّد قواعد اللعبة

الصفقة تأتي أيضًا كجزء من سياق "تكتّل" طاقوي في شرق المتوسّط. "منتدى غاز شرق المتوسّط" يضم دولًا مثل مصر وقبرص وإسرائيل والأردن مع حضور أوروبي. هذا الإطار لا يعني فقط اجتماعات وصورًا تذكارية بل يعني بناء بنى تحتية توحيد مسارات وتثبيت مركزية مصر عبر محطات التسييل والتصدير. وكلّما تقدّمت هذه الشبكة زادت كلفة أن يبقى طرفٌ خارجها.

وهنا يظهر لبنان بوصفه الحالة الأوضح على هامش هذا النظام. لبنان الغائب عن المنتدى والغارق في أزمته المالية والمؤسسية لا يملك ترف الوقت. لأنّ الإقليم لا ينتظر من يتأخر. الاستثمارات تُنفَّذ الخطوط تُمدّ والعقود تُوقَّع. ثم تُصبح "حقائق" لا تُناقَش إلا من موقع الضعف.

لبنان إيجابيّات محتملة وسلبيّات شبه مؤكّدة

على الورق قد يبدو أنّ صفقة إسرائيل ومصر لا تعني لبنان مباشرة. لكن في سوق الطاقة ما لا يمسكه بلدٌ بيده يُمسك به الآخرون بالنيابة عنه. الإيجابيّات الممكنة للبنان محدودة لكنها موجودة. أولها أنّ توسّع البنية التحتية الإقليمية قد يخلق نظريًّا فرصًا مستقبلية لربط لبنان بشبكات الغاز إذا قرر الدخول لاحقًا في ترتيبات إقليمية سواء للاستيراد بهدف تشغيل معامل الكهرباء بكلفة أقل من الفيول أو للاستفادة من خبرات التسييل والتخزين. وثانيها أنّ استقرار الإمدادات في مصر قد يخفّف الضغط الإقليمي على أسعار بعض مشتقات الطاقة وقد ينعكس بشكل غير مباشر على كلفة الاستيراد في المنطقة وإن كان هذا الأثر غير مضمون ومحدود بعوامل أكبر.

لكن السلبيّات تبدو الأوضح. أولًا كلّما تمدّدت شبكات الغاز والتحالفات حولها تكرّست عزلة لبنان الطاقوية لأنّ الإقليم يبني "سوقًا" و"قواعد" من دون مشاركته. ثانيًا تعزيز دور مصر كمركز تسييل وتصدير مع تدفّق غاز إسرائيلي منتظم يعني أن النفوذ الطاقوي الإقليمي يتجه نحو محورٍ واضح بينما يبقى لبنان بلا إنتاج وبلا بنى تحتية وبلا خطة. ثالثًا إدخال الاستثمار الأمني في حماية الأنابيب والمنشآت يعزّز منطق "المنصات المحمية" في المنطقة ما يرفع سقف التحديات أمام أي بلد يريد دخول المنظومة لاحقًا من دون ضمانات سياسية وأمنية. ورابعًا قد يتحول لبنان إلى "سوق مستورِدة" مُتأخّرة إذا احتاج غازًا لتوليد الكهرباء يومًا ما من دون قدرة على التفاوض على شروطٍ ملائمة لأنّ البدائل ستكون أقل والكلفة السياسية ستكون أعلى.

جاد هاني- المدن

The post صفقة الغاز بين تل أبيب والقاهرة تعيد تشكيل شرق المتوسط appeared first on أخبار الساعة من لبنان والعالم بشكل مباشر | Lebanonfiles | ليبانون فايلز.



إقرأ المزيد