الجفاف يغيّر خريطة الزراعة في سوريا: الكمون بديل القمح
لبنانون فايلز -

يخشى أبو محمد فايز من التورط في زراعة القمح للعام الحالي، ويقول في حديثه إلى "المدن" إن الأمر يبدو أشبه بمقامرة مع قلة الأمطار المسجلة منذ بداية الموسم في المنطقة الشرقية في سوريا، وانعدام مصادر الري، الأمر الذي قد يكبد الفلاحين خسائر كبيرة، لكن لا بد من زراعة الأرض في نهاية الأمر بدلاً من تركها مهجورة. والبحث عن مواسم بديلة هو خيار عدد كبير من الفلاحين، لكن الانتقال لهذه المواسم ليس بالقرار السهل نتيجة لوجود عدة عوامل من أبرزها نوعية التربة في الأراضي الزراعية المملوكة للسكان.

الشعير.. بضاعة نفيسة

سوء موسم الشعير والخسائر المسجلة العام الماضي أفضت لارتفاع سعره وتسجيله 600 دولار أميركي للطن الواحد مقارنة بـ300 دولار للطن خلال العام الماضي. وبحسب المعلومات التي حصلت عليها "المدن" من أكثر مصدر في أسواق المحافظات الشرقية، فإن قلة الكميات المطروحة من الشعير الأسود منذ بدء موسم زراعته أفضت لمضاعفة سعره، الأمر الذي يتسبب بزيادة في تكاليف الانتاج الأمر الذي سينعكس على أسعار الكثير من المواد في نهاية الموسم، وهذه هي المرة الأولى منذ عقود التي يزيد فيها سعر الشعير عن القمح بمقدار الضعف تقريباً.

مصادر في "سوق الحبوب"، بمدينة الحسكة قالت لـ"المدن" أن سعر طن القمح يتراوح حالياً بين 350-400 دولار للطن الواحد، لكن الإقبال على الزراعة لهذا العام ليس بالمعدلات الطبيعية، إذ يمتلك المزارعون الكثير من المخاوف بسبب قلة الأمطار، وجفاف نهري "الخابور - جغجغ"، وانحفاض مستويات التخزين بشكل كبير جداً في بحيرات السدود الثلاث الكبرى في الحسكة (الغربي - الشرقي - الجنوبي)، والمؤشرات بالنسبة للفلاحين تشير لاحتمالات الخسارة، حتى لمن يمتلك أباراً ارتوازية، فتكاليف الري باتت مرتفعة جداً.

وعلى الرغم من أن زراعة القمح والشعير تواجه تحديات كبيرة، إلا أن عبد الله حسان قرر أن يستثمر أرضه الكائنة في منطقة "تل براك"، بريف الحسكة الشرقي ضمن زراعة القمح البعلي، تاركاً الأمر مرهوناً للأقدار، ويقول في حديثه لـ "المدن": زراعة القمح متوارثة في العائلة، لا أملك خبرة في زراعة محاصيل أخرى ولن أترك أرضي مهجورة لهذا العام، وقررت أن أقوم بزراعة القمح على الرغم من أن المؤشرات تقول بأن الموسم الحالي سيكون قليل الأمطار، لكن لا يبدو أن الجميع سيهجر القمح لأن الزراعات الأخرى تحتاج إلى خبرة، وبدون ذلك يكون الأمر أيضاً مغامرة بالنسبة لي، وخلال السنوات الماضية تعرضت لخسائر طفيفة، لكني لا اعتمد في معيشتي على الزراعة لوحدها، وربما هذا السبب الأساس في عدم رغبتي في تجريب محصول جديد.

البحث عن بدائل

انتقل عدد كبير من الفلاحين لزراعة الكمون بدلاً من القمح والشعير، ويقول أبو محمد فايز، خلال حديثه إلى "المدن"، أن الأرباح التي قد تحققها زراعة الكمون تعادل أضعاف ما يمكن أن يربحه الفلاح من القمح، فطن الكمون قد يصل لـ9000 دولار أمريكي في موسم التسويق، وتكلفة زراعة الطن الواحد لا تصل لـ600 دولار في أسوأ الأحوال، وتنجح زراعة الكمون في منطقة الاستقرار الزراعي المعروفة باسم "خط العشرة"، لذا من الطبيعي أن يقوم الفلاحون بتجربة هذه الزراعة بدلاً من زراعة القمح التي تنتهي بتسويق سيء وأسعار لا تقدم المرابح الكافية لتغطية النفقات المعاشة للفلاح طيلة عام كامل.

من جهته لجأ حسين الجاسم لزراعة العدس في أرضه الواقعة بقرية شرق مدينة القامشلي بعد سنوات من استثمارها في القمح والشعير، الأمر الذي تسبب له بالخسارة خلال العامين الماضيين، ويقول في حديثه إلى "المدن": منذ سنوات نعاني من قلة الامطار مع انعدام مصادر الري في مناطقنا، ولانعدام وجود أي بوادر لمشاريع تنموية لتطوير العمل الزراعي، فقد يلجأ الكثيرون لهجرة العمل في هذا القطاع تجنباً للمزيد من الخسائر وانعدام الجدوى، مع ملاحظة أن موجات الجفاف التي شهدتها البلاد سابقاً أفضت لهجرة الكثيرين للمنطقة الشرقية والتوجه إلى دمشق او سواها للعمل في المصانع أو البناء، وهناك عدد ضخم من ابناء المنطقة الشرقية يتجهون للعمل في مزارع لبنان أو في العمل بأي مهنة بعدما يئسوا من الزراعة، فالمنطقة الشرقية تحتاج لحلول جذرية ومشاريع حقيقية لري المزروعات، وربما يبدأ الأمر من ضرورة البحث عن مصادر للمياه أساساً.

ويعد العدس من المواسم التي تدخل ضمن خطة الإنتاج الزراعي الحكومية في سوريا، وخلال العام 2024 بلغت المساحات المزروعة بالعدس نحو 37.700 هكتاراً في محافظة الحسكة وحدها، بينما كانت المساحة تقف عند 33 ألف هكتار، ويقول الجاسم في حديثه إلى "المدن": زراعة العدس تعد أفضل بالنسبة للفلاحين من سواه خلال المواسم التي تتصف بالجفاف، فالعدس يحتاج لعدد ريات أقل من القمح ويمكنه أن يقاوم الظروف المناخية أكثر منه، وبالتالي يتجه الكثيرون إلى مثل هذه الزراعة خشية من الخسائر التي قد تلحق بهم، أو حتى قلة الأرباح المحققة في حال لم يكن موسم القمح والشعير خاسراً.

بالأرقام

بلغت ذروة الإنتاج السوري من القمح في 2006، حينها انتجت البلاد 4.9 ملايين طن من القمح، وحققت فائضاً للتصدير بمقدار يصل لـ 1.2 مليون طن من القمح، وكانت السياسة السورية تقوم على تخزين القمح ضمن صوامع تنتشر في معظم مناطق الإنتاج بما يحقق الأمن الغذائي السوري، والتصدير لم يكن يوماً على حساب ما يتم تخزينه من القمح كمخزون استراتيجي، وفي العموم كان المعدل الوسطي لانتاج القمح في سوريا يبلغ 4 ملايين طن، لكن الإنتاج شهد تراجعاً كبيراً وعلى سبيل المثال الا الحصر، فإن معدل الإنتاج بين العامين 2020 - 2023 لم يزد عن 1.5 مليون طن من القمح.

وبحسب تقرير لمنظمة الأغذية والزراعة وانخفض إنتاج القمح في بعض السنوات إلى أقل من 271 ألف طن، أي ما يعادل 7% فقط من الاحتياج المحلي، مع انهيار الإنتاج، لجأت سوريا إلى الاستيراد لتأمين حاجتها من القمح، والتي تُقدّر بنحو 1.5 مليون طن سنويًا، وبذلك تحولت سوريا خلال فترة الحرب إلى مستورد للقمح، وبحسب تقارير اقتصادية متعددة فقد وصلت قيمة الاستيراد إلى 400 مليون دولار سنوياً، كما تسببت الحرب في نزوح آلاف الفلاحين من مناطق الإنتاج الرئيسية كالحسكة ودير الزور، ما أدى إلى انكماش اليد العاملة الزراعية بنسبة تفوق 60%، وفق تقديرات غير رسمية.

وارتفع سعر ربطة الخبز بشكل جنوني من 15 ليرة سورية في 2011 إلى 4000 حالياً، وفي سنوات خلت قامت حكومة النظام السابق بتحديد بيع الخبز عبر ما عرف بـ البطاقة الذكية، ثم التقنين في استهلاكه بشكل قسري لتصبح حصة الفرد بأربعة أرغفة يومياً، وذلك في محاولة لضبط الاستهلاك وتقليل الهدر، وخفض كلف الانفاق على ملف الخبز الأكثر حساسية في حسابات السوريين.

قمح السوريين شغل منظمة الأغذية والزراعة التابعة للأمم المتحدة (فاو)، وفي تقرير صدر عنها في شهر حزيران للعام ألفين وخمسة وعشرين، حذرت من أن سوريا تواجه نقصًا في القمح يُقدّر بنحو 2.73 مليون طن هذا العام، وهو ما يكفي لإطعام نحو 16 مليون شخص لمدة عام.

وبحسب تصريحات مسؤول حكومي سوري، فإن الحكومة تحتاج إلى استيراد نحو 2.55 مليون طن لتغطية هذا العجز، لكنها لم تعلن حتى الآن عن أي صفقات كبيرة، وتعتمد على شحنات صغيرة لا تتجاوز 200 ألف طن، تُورّد عبر عقود مباشرة مع مستوردين محليين.

فاو أشارت أيضًا إلى أن 40% فقط من الأراضي الزراعية تمّت زراعتها الموسم الماضي، فيما أتلف الجفاف مساحات واسعة، خاصة في المحافظات الرئيسية المنتجة للغذاء مثل الحسكة وحلب وحمص. ورغم هذه الظروف، شجعت الحكومة المزارعين المحليين على بيع ما تبقى من محاصيلهم بسعر 450 دولاراً للطن الواحد، أي أعلى بنحو 200 دولار من سعر السوق، في محاولة لتحفيز الإنتاج المحلي، لكن مواجهة الموسم الحالي وانعدام وجود بدائل للأمطار في حالة استمر الجفاف الذي ضرب البلاد العام الماضي، فإن عدداً كبيراً من السوريين سيهجر القمح والشعير، وبالتالي ستكون سوريا لعام قادم دولة مستوردة للقمح الذي يعد من أساسيات الغذاء فيها، ما سيكلف الخزينة العامة للبلاد مبالغ ضخمة.

محمود حسين - المدن

The post الجفاف يغيّر خريطة الزراعة في سوريا: الكمون بديل القمح appeared first on أخبار الساعة من لبنان والعالم بشكل مباشر | Lebanonfiles | ليبانون فايلز.



إقرأ المزيد