آيم-لبنانون - 11/11/2025 5:30:59 AM - GMT (+2 )
كتب عماد الشدياق في “نداء الوطن”:
لم يأتِ الوفد الأميركي، الذي حطّ في بيروت، ليعِد اللبنانيين بحلّ أزمة الودائع ولا بفُتات من مليارات موعودة. بل حَمَل معه شيئًا واحدًا واضحًا يتعلّق بدفاتر حسابات “حزب اللّه” واقتصاد “الكاش”، مرفقة بقائمة أسئلة حادّة موجّهة لأركان السلطة والمصارف… الرسالة تقول إن مرحلة “غض النظر” قد انتهت.
ما جرى في قصر بعبدا ثمّ في السراي الحكومي ووزارة المالية وجمعيّة المصارف، منذ الأحد مساء حتى الإثنين، أشبه بـ “جولة تفتيش ماليّ” قام بها وفد الخزانة الأميركية ومجلس الأمن القومي، أكثر منه حركة تضامن مع بلد ينهار. منذ اللحظة الأولى لوصول الوفد، تَرسَّخ الانطباع بأن واشنطن قرّرت الانتقال من سياسة الرسائل العامة إلى مخاطبة من بيده القرار في لبنان مباشرة: رئيس الجمهورية جوزاف عون، رئيس الحكومة نواف سلام، حاكم المصرف المركزي كريم سعيد، وزارة المالية ياسين جابر، وجمعيّة المصارف.
الوفد لم يكن بروتوكوليًا. تركيبته نفسها تقول إن الملف هو تمويل “حزب اللّه”، والاقتصاد الموازي الذي يعيش خارج النظام المصرفيّ التقليديّ.
في بعبدا، حاول الرئيس جوزاف عون أن يقدّم الدولة كطرف “منضبط” أمام الجهات الرقابية الأميركية، مظهرًا تشديدًا على تعديل قانون السرية المصرفية، والشروع في إعادة هيكلة المصارف، وكذلك التحضير لطرح قانون الفجوة الماليّة، مؤكّدًا أن أجهزة الدولة تلاحق الشبكات غير الشرعية، من التهريب إلى تبييض الأموال.
هذه هي الرواية الرسميّة التي عمّمتها منصّات قريبة من القصر ومواقع لبنانية عدّة. لكن على الضفة المقابلة، جاء خطاب الوفد محمّلًا بأرقام ومعطيات، أبرزها ما نُقل عن جون هيرلي عن أن إيران نجحت في ضخ نحو 1 مليار دولار إلى “حزب اللّه” هذا العام رغم العقوبات، وأن هناك “فرصة سانحة” لقطع هذه الشرايين، إذا التزم لبنان بإقفال الثغرات في نظامه الماليّ وحدوده ومؤسّساته.
هنا تحديدًا يتضح ميزان القوى: الرئيس عون قدّم نصوصًا وقوانين، في المقابل حمل الوفد الأميركيّ قوائم ومسارات عن أموال وشبكات تحويل غير شرعية. وبذلك يمكن القول إن لقاء بعبدا كشف خطّ التماس الحقيقي: الأميركيون يربطون بين ثلاثية واضحة وهي: تجفيف مصادر تمويل “حزب اللّه”، دعم الجيش كمرجعية أمنية وحيدة، وتطبيق فعلي للقرار 1701 مع بسط سلطة الدولة في الجنوب. وأيّ خلل في هذه المعادلة سيُقرأ كحماية رسمية لبنية التمويل التي يريدون ضربها.
في المقابل، حاول الرئيس عون استخدام لغة “الامتثال” كي يحصّن ما تبقى من سمعة لبنان، وأن يقول لواشنطن: استثمروا في الدولة، لا تقصفوا النظام المالي ككلّ.
في السراي، مع نواف سلام، انتقل النقاش من مستوى “التطمينات” إلى مستوى “الاختبار”. رئيس الحكومة قدّم نفسه كشريك إصلاحيّ مستعدّ لترجمة المطالب على شكل قوانين وإجراءات: تنظيم حركة الأموال، تشديد الرقابة على شركات الصيرفة، متابعة قوانين الشفافية والإصلاح، التمسّك بسيادة الدولة وتطبيق القرارات الدولية.
لكن جوهر رسالة الوفد الأميركي غير المعلن، كان أبعد من ذلك بكثير، وتمحور حول العناوين التالية: لا تمويل، لا هبات، لا مظلّة سياسية دوليّة جدّية، من دون دلائل ملموسة على ضرب اقتصاد الكاش وقنوات تمويل “الحزب”، ومن دون أن تتحوّل القوانين من “حبر على ورق” إلى “عمليات ضبط حقيقية” عند الحدود وفي المرافئ والمطار، وفي قلب القطاع المصرفي.
هذا الربط بين مسار صندوق النقد أو علاقة المصارف اللبنانية بالمصارف المراسلة، وبين مستوى التجاوب مع أجندة مكافحة تمويل “حزب اللّه”، يظهر بوضوح اهتمامات الوفد وتصريحاته.
أمّا الاجتماعات “التقنية” مع وزارة المالية، ومصرف لبنان وجمعية المصارف، فكانت عمليًا قلب الزيارة. هناك، لم يعد النقاش سياسيًا بل محاسبيًا: أين تقف خطة الفجوة المالية ومن يتحمّل الخسائر؟ كيف سيُضبط اقتصاد الكاش الذي تحوّل إلى شريان بديل للتجار والشبكات الحزبية؟ ما نُشر في المنابر اللبنانية والأميركية يشي بأن الوفد لوّح بوضوح بسلاح العقوبات الفردية والمؤسّساتية، وبسلاح أكثر حساسية: التضييق على علاقة المصارف اللبنانية بالدولار وبالمصارف المراسلة، إذا استمرّ التساهل أو التواطؤ.
خلف كلّ هذه اللقاءات، تقف معادلة “سياسية ـ أمنية” أكبر من لبنان نفسه. الوفد جزء من جولة إقليمية هدفها خنق قنوات تمويل إيران وأذرعها، ولبنان في هذه المعادلة ليس بلدًا يحتاج إلى إنقاذ بقدر ما هو “ثغرة يجب إغلاقها”. في العمق، الزيارة تقول للبنانيين وللسلطة معًا: زمن إدارة الانهيار بأموال “حزب اللّه” والاقتصاد الموازي يقترب من نهايته. إذا قرّر الرسميون حماية هذه المنظومة، فستتعامل واشنطن مع لبنان كمساحة استهداف مالي متدرّج. وإذا قبلوا الذهاب إلى نهاية الطريق في الامتثال، فهذا يعني إعادة رسم التوازنات الداخلية حول من يملك السلاح، ومن يملك المال، ومن يملك شرعية القرار.
ما جاء به الوفد ليس اقتراحًا تقنيًا، بل مشروع إعادة هندسة للعلاقة بين الدولة و “الحزب” والمصارف، بأدوات مالية لا تقل عنفًا عن السلاح الذي يُحكى عن نزعه. وعليه، فإن هذه الزيارة أظهرت بوضوح أن واشنطن لم تَعُد تتعامل مع لبنان كبلد “ضحية”، بل كفاعل يتحمّل مسؤولية: إمّا أن يكون شريكًا في تجفيف منابع التمويل، أو يتحمّل كلفة العقوبات… بينما الباقي تفاصيل.
إقرأ المزيد


