الغاز يعيد رسم الموازين: لبنان يدخل معادلة شرق المتوسط
لبنانون فايلز -

شهدت منطقة شرق البحر الأبيض المتوسط تحولاً استراتيجياً، بمصادقة الحكومة اللبنانية قبل أيام على اتفاق ترسيم الحدود البحرية مع قبرص، وذلك استكمالاً للمسار الديبلوماسي الطويل الذي بدأ عام 2007، بهدف توضيح نطاقات السيادة البحرية وفتح الباب أمام مشاريع طاقة مستقبلية.

يُفهم إقرار الحكومة اللبنانية للاتفاق، في وقت تتزايد المنافسات الإقليمية على الغاز الطبيعي وتتفاقم التحديات السياسية والأمنية، كجزء من تفاهمات إقليمية أوسع قد تنكشف في الأشهر أو السنوات المقبلة، وليس بعيداً من ملامح الشرق الأوسط الجديد ما بعد هجمات 7 تشرين الأول/أكتوبر.

البلدان بين المكاسب والمخاطر
يشكّل اتفاق ترسيم الحدود البحرية فرصة اقتصادية وديبلوماسية لكلٍّ من لبنان وقبرص، وأيضاً لإسرائيل، من دون إغفال التحدّيات والمخاطر المحتملة.
ويمكن تلخيص مكاسب لبنان الاستراتيجية والاقتصادية الملموسة في النقاط الآتية:
- إتاحة الاتفاق الفرصة لتطوير البلوك 8 ضمن المنطقة الاقتصادية الخالصة، بعد توقيع اتفاق لخمس سنوات مع ائتلاف شركات "توتال إنرجيز" و"إيني" و"قطر للطاقة" لاستكشاف الغاز البحري.
- يمثّل الاتفاق خطوة مهمة لجذب الاستثمارات الأجنبية الضرورية لقطاع الطاقة، كما يوفر مصادر دخل جديدة يمكن أن تدعم مشاريع إعادة الإعمار الوطنية، التي تُقدَّر احتياجاتها بما يقارب 400 مليار دولار بعد سنوات الحرب.
- يمنح الاتفاق لبنان مصداقية دولية في إدارة ملف الحدود البحرية، ويعزّز دوره في منتدى غاز شرق المتوسط، ما يفتح أبواب التعاون الإقليمي مستقبلاً.
ومع ذلك، ستستمر الانتقادات للحكومة اللبنانية بسبب تقليص الاتفاق مساحة الحقوق البحرية التي يمكن أن تطالب بها مستقبلاً.

أما قبرص، فتستفيد من الاتفاق:
- باعتباره وسيلة لتثبيت حقوقها البحرية، خصوصاً في الحقول الغازية مثل أفروديت وحقلي كاليبسو وغلاوكوس، مع إمكانية ربطها بمحطات الغاز الطبيعي المسال في مصر لتصدير الغاز إلى أوروبا.
- يعزّز الاتفاق فرص قبرص الاقتصادية ومكانتها كلاعب إقليمي في مجال الطاقة، لكنه لا يعفيها من مواجهة التحديات الأمنية الناتجة من عدم اعتراف تركيا بالحدود البحرية القبرصية، وهو ما قد يعرقل تطوير بعض الحقول أو يؤخّر مشاريع التصدير.

موازين القوى البحرية التركية بعد الاتفاق
تكسب إسرائيل من الاتفاق موقعاً أكثر استراتيجية في ممرّ الطاقة شرق المتوسط، عبر حقول ليفياثان وتمار، خصوصاً أن تطوير البلوك 1 بالقرب من الحدود البحرية الثلاثية يمكن أن يزيد من قدرتها على تصدير الغاز إلى مصر والأسواق الأوروبية، ويعزّز نفوذها الاقتصادي والديبلوماسي.
لكن تل أبيب تواجه معضلة موازنة مصالحها مع لبنان وقبرص، خصوصاً في ما يتعلّق بالبلوكات المتاخمة لحدودها الاقتصادية، إذ تُضطر كلٌّ من قبرص وإسرائيل إلى التعامل مع الضغوط التركية المتزايدة.
من جهتها، ترى تركيا في الاتفاق تهديداً جزئياً لمبادئ "الوطن الأزرق"، حيث تسعى إلى تأمين السيطرة على مساحة واسعة من شرق المتوسط. فالخطوة تعزّز سيادة لبنان وقبرص على مناطق بحرية تعتبرها أنقرة جزءاً من مصالحها، ما يزيد الضغط عليها في النزاعات المتزامنة مع اليونان وقبرص، خصوصاً في ظل مطالبها باعتماد الرفوف القارية لا الجزر كحدود للمناطق الاقتصادية الخالصة.
اعتمدت أنقرة سابقاً على ورقة الردع العسكري لمواجهة الائتلاف، المعلن والمستتر، بين دول شرق المتوسط، من خلال نشر قطع بحرية لمراقبة الأنشطة في المناطق المتنازع عليها، وإظهار قدرتها على التدخل إذا تم تطوير حقول الغاز من دون موافقتها.
ولا تزال قادرة على استخدام نفوذها في ليبيا للتأثير على تحركات قبرص وإسرائيل ولبنان، والتفاوض مع مصر وأذربيجان لضمان مصالحها في الغاز والطاقة، وتوظيف الممرات البحرية الاستراتيجية كأداة ضغط سياسي.
وبرغم التوترات، باتت أنقرة اليوم أكثر ميلاً إلى البحث عن فرص للتعاون المستقبلي، خصوصاً في ما يتعلّق بالوصول إلى أسواق الغاز الأوروبية عبر خطوط أنابيب أو محطات الغاز المسال، ما يعكس مزيجاً من البراغماتية السياسية والطموحات الاقتصادية.
وعلى المستوى الداخلي، تسعى تركيا إلى تعزيز قدرة شركاتها على الاستثمار في مشاريع الغاز والطاقة المتجددة، بما في ذلك مشاريع الهيدروجين الأخضر، لتقليل الاعتماد على الغاز المستورد، وتعزيز موقعها كلاعب رئيسي في منطقة شرق المتوسط، مع الحفاظ على نفوذها السياسي في النزاعات البحرية.

الوساطة الأميركية شرط للتكامل الإقليمي
فيما يعزّز الاتفاق بين قبرص ولبنان قدرة إسرائيل على تصدير الغاز إلى مصر، ويتيح لمصر أن تصبح مركزاً لوجستياً لتوزيع الغاز إلى الأسواق الأوروبية، فإنه يزيد من الضغط على تركيا ويعقّد مطالبها البحرية، بينما تعزّز اليونان تحالفاتها مع قبرص ومصر لإبقاء أنقرة خارج المشاريع الجديدة، مستفيدة من الدعم الأوروبي.
تراقب أنقرة التغيّرات الإقليمية والدولية بعد هجوم "حماس" في 7 أكتوبر وسقوط الأسد في 8 كانون الأول/ديسمبر، ما يدفعها إلى خفض التوتّر في شرق المتوسط وتقديم نفسها شريكاً فاعلاً بدلاً من استفزاز المنتدى القائم، الأمر الذي يفتح الباب أمام مصالحة تركية – إسرائيلية باتت حتمية بالنسبة إلى أنقرة للبقاء في معادلة غاز شرق المتوسط، وفي المعادلة السياسية الإقليمية عموماً.
من مشاريع ربط الشبكات الكهربائية وتعزيز إمكانات تصدير الطاقة النظيفة، إلى مشاريع تصدير الغاز الشرق أوسطي لأوروبا كبديل محتمل للغاز الروسي، وتنمية قدرات الغاز الطبيعي المسال وتسهيل تصديره عبر مصر، جميعها تخلق حوافز للتعاون الإقليمي وتخفيف المخاطر المرتبطة بالصراعات البحرية.
وبذلك يتحوّل الغاز إلى أداة لبناء الثقة الإقليمية، مع وجود آلية ووساطة أميركية فعالة تستند إلى تنمية الحوافز الاقتصادية مقابل تقليل المخاطر العسكرية والسياسية.
وتبقى فرص التكامل الإقليمي مرهونة بقدرة الدول على التوافق بشأن قوانين البحار، وتطوير البنى التحتية للطاقة، وإدارة التوترات التركية – اليونانية من جهة، والإسرائيلية – الإقليمية من جهة أخرى.
يمثّل اتفاق لبنان وقبرص نقطة تحوّل استراتيجية تحمل فرصاً اقتصادية وديبلوماسية مصحوبة بتحدّيات أمنية ولوجستية. فالموازين الإقليمية تتجه نحو شبكات طاقوية متكاملة يمكن أن تخفف النزاعات، ليتحوّل الغاز في شرق المتوسط من مصدر للتوتر إلى محرّك للتكامل الإقليمي.
لكن المنطقة تظلّ مسرحاً للصراعات التقليدية التي تحول دون اجتماع الغاز والطاقة والديبلوماسية في خريطة استراتيجية واحدة.

سركيس قصارجيان - النهار

The post الغاز يعيد رسم الموازين: لبنان يدخل معادلة شرق المتوسط appeared first on أخبار الساعة من لبنان والعالم بشكل مباشر | Lebanonfiles | ليبانون فايلز.



إقرأ المزيد