قرارات أميركا واقتصاد العالم: الذهب والفوائد والترمبيّة
بتوقيت بيروت -

ينتظر العالم بحذرٍ شديد اجتماع الاحتياطي الفيدرالي الأميركي، المقرّر في 16 و17 أيلول. إذ تترقّب الأسواق ما إذا كانت الولايات المتحدة مقبلة على خفض جديد لمعدّلات الفوائد، مع كل ما يعنيه ذلك من تأثيرات على أسواق السندات والذهب والنفط، وعلى مؤشّرات الاقتصاد الكلّي. ولهذا الاستحقاق مدلولاته السياسيّة، التي تُزاحم في أهميّتها مدلولاته الاقتصاديّة النقديّة. فإدارة ترامب أفرطت منذ مجيئها في الضغط على الاحتياطي الفيدرالي لدفعه باتجاه تخفيضات سريعة وحادّة في معدلات الفوائد، أملًا بتنشيط عجلة الاقتصاد. ولإدارة الاحتياطي الفيدرالي هواجسها المضادّة، فالتسرّع في دورة التيسير النقدي وتخفيض معدّلات الفوائد، قد يغذّي الضغوط التضخميّة، بل وسيسرّع في خسارة الدولار لقيمته الشرائيّة.

نحن إذن أمام حسابات معقّدة، وأولويّات قد تكون في بعض الأحيان متعارضة، ما بين الإدارة الأميركيّة والاحتياطي الفيدرالي. ولهذا السبب، بات الاستحقاق مرتبطًا بمسألة سجاليّة أخرى لا تقل أهميّة: قدر الاستقلاليّة التي يتمتّع بها الاحتياطي الفيدرالي. ومستوى الحصانة التي يملكها، في وجه حرب النفوذ التي تخوضها إدارة ترامب، للإمساك بمفاصل القرار في البلاد. ولتآكل استقلاليّة الاحتياطي الفيدرالي تداعياتها هنا، على مستوى الثقة والمصداقيّة التي تتمتّع بها السياسة النقديّة في البلاد، ثم على مستوى نظرة الأسواق للدولار كعملة احتياط وتداول عالميّة. وليس ثمّة ما يدعو للقلق، أكثر من تحوّل السياسة النقديّة للولايات المتحدّة إلى ذراع أخرى، يستعملها البيت الأبيض في الحروب الاقتصاديّة و التجاريّة على أكثر من جبهة.

الحسابات المعقدة

في ترقّبها لتوجّهات الفوائد الأميركيّة، تلحظ الأسواق العديد من العوامل المؤثّرة. ثمّة مؤشّرات تدل على تباطؤ سوق العمل الأميركي، ما يشير بوضوح إلى الحاجة لتخفيضات إضافيّة في معدلات الفوائد، دعماً للنشاط الاقتصادي. وضغط إدارة ترامب، الذي يدفع بهذا الاتجاه، بات واضحًا للجميع. وإدارة ترامب، لا تتحمّس أساسًا لمبدأ “الدولار القويّ”، ما يقلّل -بالنسبة لها- من أهميّة رفع الفوائد والحفاظ على قيمة الدولار ومكافحة معدلات التضخّم.

بالنسبة للحلقة المحيطة بترامب، قد يكون ضعف الدولار، مقابل العملات الأخرى، عاملًا مفيدًا لتقوية الصادرات الأميركيّة، وتخفيض أسعارها في الأسواق الخارجيّة. وعلى المدى الأبعد، قد يكون التضخّم عاملًا مساعدًا يسمح بتآكل القيمة الحقيقيّة للدين العام الأميركي. بل تخفيض معدلات الفوائد، هو شرط أساسي لإبطاء وتيرة تزايد هذا الدين، عبر تقليل كلفة خدمة الدين نفسه.

هكذا، ولعدّة اعتبارات وأسباب، نحن أمام إدارة أميركيّة تحارب فكرة الفوائد المرتفعة، بل وتحارب الأسباب التي يستند إليها الاحتياطي الفيدرالي، للحفاظ على معدلات الفوائد المرتفعة. ومن هنا، يصبح الاحتكاك المتكرّر ما بين القيادة الحاليّة للاحتياطي الفيدرالي، وإدارة ترامب، مفهومًا للغاية.

في مقابل هذه الضغوط، ثمّة تيّار واسع داخل الاحتياطي الفيدرالي لا يزال يدفع باتجاه التريّث، وعدم الاندفاع بعيدًا في خفض معدلات الفوائد. بالنسبة لهؤلاء، لا تزال مؤشّرات التضخّم أعلى من المعدّل المستهدف، والمحدد عند مستوى 2 بالمئة. والتعريفات الجمركيّة الواسعة التي فرضتها إدارة ترامب، قد ترفع أسعار السلع المستوردة خلال الأشهر المقبلة، ما قد يعيد إشعال معدلات التضخّم على المدى المتوسّط. وأمام مؤشّرات كهذه، لا يوجد سبب للإفراط في دورة التيسير النقدي، بل سيكون ذلك دلالة على خضوع الاحتياطي الفيدرالي للضغوط السياسيّة، بدل التزامه بأهداف السياسة النقديّة.

السيناريوهات المتوقّعة

بين الضغوط السياسيّة التي تفرضها إدارة ترامب، والمؤشّرات الاقتصاديّة التي تدعو للتمهّل وعدم التسرّع في خفض الأسواق، بنت الأسواق توقّعاتها. بعض التحليلات توقّعت أن يلجأ الاحتياطي الفيدرالي للإبقاء على معدلات الفائدة عند مستوياتها الحاليّة، لكن مع اعتماد “نبرة تمهيديّة” تؤشّر لتخفيضات مستقبليّة في معدلات الفائدة، إذا هدأ التضخّم أكثر. وفي المقابل، ثمّة تحليلات توقّعت أن يطبّق الاحتياطي الفيدرالي تخفيضًا محدودًا للفوائد، بمقدار ربع نقطة مئويّة، على أن ذلك لاحقًا تخفيضات إضافيّة قبل نهاية العام، إذا استمرّت معدلات النمو الاقتصادي بالتباطؤ.

وسواء قرّر الاحتياطي الفيدرالي تثبيت معدلات الفوائد، مع نبرة تمهّد لتخفيضات مستقبليّة، أو اعتمد تخفيضات محدودة، ما تؤكّد عليه جميع التحليلات هو أنّ الاحتياطي الفيدرالي لن يتسرّع في إجراء تخفيضات معتبرة في معدلات الفوائد حاليًا، إذ إنّ الظروف ليست مهيّئة بعد لذلك. لكنّ الأكيد أيضًا، هو أنّ تخفيضات مستقبليّة ستكون ضروريّة بعد شهر أيلول، بعد أن يحقّق الاحتياطي الفيدرالي أقصى ما يمكن تحقيقه من خفض في معدلات التضخّم، من دون دفع البلاد إلى أتون الركود الاقتصادي.

الذهب والنفط وسوق السندات

منذ بداية الشهر الحالي، شهدت الأسواق موجة من الزيادات في شراء الذهب، وهو ما دفع أسعار الذهب لتسجيل معدلات قياسيّة غير مسبوقة تاريخيًا. والمسألة هنا مفهومة. فطالما أنّ الأسواق مقبلة على تخفيضات في معدلات الفائدة، سواء في منتصف شهر أيلول أو في مراحل أخرى، فأسعار الذهب يفترض أن تذهب بالاتجاه المعاكس تمامًا. والمنطق هنا بديهي: فانخفاض معدلات الفوائد، سيعني تخفيض عوائد السندات، ما يزيد تلقائيًا من جاذبيّة أسواق المعادن والسلع النادرة، وفي طليعتها طبعًا الذهب.

من جهة أخرى، أي تيسير نقدي أو خفض للفوائد، سيعني على المدى المتوسّط إضعاف الدولار، وهو ما يدعم أسعار السلع المقوّمة بالدولار الأميركي، مثل النفط. وعلى هذا الأساس، من المتوقّع أن تتفاعل أسواق الطاقة إيجابًا مع أي خفض للفوائد الأميركية، أو أي مؤشّرات تدل على اقتراب قرار كهذا. لكن في الوقت الحالي، لا تزال أسواق النفط تتفاعل مع مؤشّرات أخرى أكثر تأثيرًا، مثل إشارات ضعف الطلب في أسواق الولايات المتحدة الأميركيّة، وزيادة المخزونات، والتوترات الجيوسياسيّة في الشرق الأوسط. وبذلك، ستختلط -خلال الأيام المقبلة- تأثيرات قرار الفوائد، مع تأثيرات عوامل متعدّدة، عند إعادة تشكيل توازنات العرض والطلب في السوق.

أخيراً، أسواق السندات هي أكثر ما يترجم التوقعات المرتبطة بالسياسة النقديّة، بشكل فوري. إذ تتحرّك أسعار السندات بشكل معاكس لأسعار الفائدة أو التوقعات المرتبطة بها. فعند انخفاض أسعار الفوائد، أو توقّع السوق لانخفاض كهذا، ترتفع قيمة السندات. وذلك لتقليص العائد على هذه السندات، أي الفارق بين قيمتها الحاليّة وقيمتها عند الاستحقاق. وفي الوقت الراهن، تظهر تحوّلات الأسعار في سوق السندات أنّ المستثمرين يتوقّعون خفضًا لأسعار الفائدة في اجتماع 16-17 أيلول، وبنسبة تقارب 0.25 بالمئة.

أيًا تكن خلاصات اجتماع الاحتياطي الفيدرالي المقبل، لن تقتصر خلاصات الاجتماع على كونها محطة تقنيّة لضبط وتحديد أسعار الفائدة، بل ستمثّل اختبارًا لاستقلاليّة السياسة النقديّة في مواجهة ضغوط سياسيّة غير مسبوقة. فالاحتياطي الفيدرالي بُني مؤسساتيًّا ليعزل قرارات السياسة النقديّة عن التقلّبات السياسيّة اليوميّة، للحفاظ على استقرار السوق والأسعار، فيما يواجه هذا العزل تحديات كبيرة مع محاولات ترامب فرض أولوياته على السياسة النقديّة. فهل ينجح الاحتياطي الفيدرالي في الحفاظ على مصداقيّته، وسط العواصف السياسيّة الحاليّة؟



إقرأ المزيد