من وادي السيليكون إلى القلاع المحصّنة: الشعب يريد إسقاط… أمراء التكنولوجيا
بتوقيت بيروت -
في السنوات الأخيرة، صار الرؤساء التنفيذيون لشركات التكنولوجيا يعيشون كأنهم محاصرون. اغتيالات وهجمات مسلّحة فجّرت ذعراً واسعاً، ودفعت الشركات إلى إنفاق عشرات الملايين على حماية أفراد قلائل بدأت القصة بسلسلة أحداث هزّت دوائر الأعمال الأميركية. في 4 كانون الأوّل (ديسمبر) 2024، قَتَل مسلّحٌ الرئيس التنفيذي لـUnitedHealthcare براين تومبسون خارج فندق في مانهاتن، واتهمت وزارة العدل لويجي مانجيوني بالجريمة وفقاً لتغطيات الإعلام الأميركي. بعده بأشهر، أطلق مسلّح النار داخل مبنى مكاتب في مانهاتن في 26 تموز (يوليو) 2025 فقَتَل أربعة أشخاص، وقالت السلطات إنّه حمل ضغينة ضد «الرابطة الوطنية لكرة القدم» (NFL). رسّخ المشهدان شعوراً بأن قادة الشركات لم يعودوا في منأى من العنف. رفعت الشركات ميزانيات الحماية على هذا الأساس. أظهر تحليل أجرته «فايننشال تايمز» أنّ المجموع في 2024 تجاوز 45 مليون دولار لعشر شركات تكنولوجيا كبرى، وأنّ شركات مثل «ألفابت» و«أمازون» و«ميتا» و«إنفيديا» و«بالانتير» زادت الإنفاق بأكثر من 10 في المئة على أساس سنوي. سجّلت شركة الأبحاث والاستشارات «إكويلار» في المدة نفسها ارتفاعاً نسبته 73.5 في المئة في عدد التنفيذيين في قطاع التكنولوجيا الذين حصلوا على مزايا حماية مموّلة من الشركات بين عامَي 2020 و2024. كلفة الأمان
حافظ مؤسس «ميتا» (فايسبوك سابقاً)، مارك زوكربرغ، على الصدارة في وادي السيليكون. سدّدت «ميتا» أكثر من 27 مليون دولار عام 2024 لتأمينه وأسرته، وغطّت الحماية أفراد العائلة بشكل مباشر. أضافت «فايننشال تايمز» أنّ فاتورة «ميتا» تجاوزت أرقام كثير من المنافسين. كشف ملفّ شركة «تسلا» السنوي أنّ الشركة دفعت عام 2024 نحو 2.8 مليون دولار لشركة أمنية يملكها إيلون ماسك «فاونديشن سيكيوريتي» مقابل خدمات تخصّه، وسدّدت أيضاً نصف مليون دولار حتى شباط (فبراير) 2025 ضمن الكلفة الإجمالية. نشرت تقارير عدة أنّ ماسك يتنقّل مع ما يصل إلى عشرين عنصر أمن. قدّمت «إنفيديا» قصة مختلفة في الشكل، متشابهة في الجوهر. حقّقت الشركة في تموز (يوليو) 2025 قيمة سوقية بلغت 4 تريليونات دولار، وقفزت ثروة رئيسها التنفيذي جنسن هوانغ إلى ما بين 140 و153 مليار دولار وفقاً لمؤشرات «بلومبرغ» و«فورشن». أشارت التقارير إلى إنفاق 3.5 ملايين دولار على حمايته في 2024 مع تزايد ظهوره العلني وتدخّله في ملفات تصدير الرقائق إلى الصين ولقاءاته في واشنطن. أمّا بالنسبة إلى شركة «بالانتير»، فقد أحاطت بها عواصف سياسية، إذ وقّعت عقوداً مع «جيش» الاحتلال وتعاملت مع ملفات الهجرة الأميركية، وسُجّلت احتجاجات وأعمال تخريب لمكاتبها في عام 2019. أشارت تقارير حديثة إلى تهديدات ضد رئيسها التنفيذي أليكس كارب وإلى وجود حراسة دائمة ترافقه. سجّلت «أمازون» مساراً مختلفاً. سدّدت منذ سنوات نحو 1.6 مليون دولار سنوياً لتأمين جيف بيزوس وفقاً لتقارير الشركة، ونصبت في أوائل 2019 ألواحاً مضادة للرصاص بسماكة 1.5 إنش في مقرها في سياتل. أظهر تقرير عام 2025 أنّ كلفة الحماية الشخصية للرئيس التنفيذي الحالي آندي جاسي بلغت نحو 1.12 مليون دولار في 2024 صعوداً من 986 ألفاً في 2023. سجّلت بعض الشركات اتجاهاً معاكساً. عرضت بيانات «بالو ألتو نتووركس» تراجع الإنفاق على أمن نيكش أرورا من نحو 3.77 مليون دولار في 2023 إلى نحو 1.68 مليون دولار في 2024. كشفت إفصاحات «آبل» لعام 2025 أنّ تكاليف الحماية الشخصية لرئيسها التنفيذي تيم كوك في 2024 بلغت بين 783 و820 ألف دولار، مع إلزامه باستخدام الطائرات الخاصة لأسباب أمنية تُسجَّل على أنها مصاريف منفصلة. التهديد رقمي أيضاً
وسّعت الشركات تعريف «التهديد» ليشمل الفضاء الرقمي. وثّقت وزارة الأمن الداخلي الأميركية تصاعد عمليات انتحال صوت التنفيذيين عبر الذكاء الاصطناعي لطلب تحويلات مالية، وسُجّلت حالات عدة حول العالم، بينها تحويلات بملايين الدولارات بعد مكالمات فيديو مزيفة. ترافق ذلك مع محاولات اقتحام منازل وملاحقات واستخدام تقنيات التزييف العميق «ديب فايك» في الاحتيال وفقاً لتقارير هيئات مالية وخبراء أمن. بعد مقتل تومبسون، أزالت شركات تأمين صحي كبرى صفحات السير الذاتية وصور المديرين من مواقعها أو عدّلتها، ومن بينها UnitedHealth وCVS وجهات أخرى. فرضت بعض المجالس في قطاعات صناعية ودفاعية على الرؤساء التنفيذيين استخدام الطائرات الخاصة للسفر العام والخاص لأسباب أمنية. الإقطاع الرقمي
أظهرت تبرّعات إيلون ماسك التي تجاوزت 278 مليون دولار في موسم 2024 الانتخابي انتقال رأس المال التكنولوجي من موقع الشريك الاقتصادي إلى موقع المقرِّر السياسي. صار ماسك لاعباً يشتري النفوذ التشريعي والإعلامي معاً: يموّل الحملات، يضغط على الكونغرس، ويوظف منصة «إكس» لإنتاج سرديات تخدم مصالحه. هذا التموضع عزّز من فكرة تداخل الشركات التكنولوجية الكبرى مع البنية السياسية الأميركية، وأكد على صعود طبقة أوليغارشية سيليكونية تصوغ التشريعات بما يضمن تراكم أرباحها واستدامة احتكارها، فيما يبقى المجتمع الأميركي مثقلاً بأزمات السكن والصحة والعمل. دفعت هذه التموضعات السياسية، مع صعود أسهم الشرائح والذكاء الاصطناعي، وتفادي عمالقة التقنية دفع الضرائب، إلى أن يصبح قادة هذه الشركات أهدافاً مباشرة لغضب الفقراء والمسحوقين. تتضخّم ثرواتهم في أسابيع بمعدلات تفوق ما يحلم به ملايين العمال في أعمار كاملة، فيما تُغلق المصانع، وتتراجع الأجور، وتُسحب برامج الدعم الاجتماعي تحت ذريعة التقشّف. تُحوَّل الابتكارات التكنولوجية إلى أدوات لزيادة أرباح الشركات لا لتحسين حياة البشر، ويُترَك ملايين الناس تحت رحمة منصات تحتكر العمل والمعرفة وتحدد شروط البقاء. يتكشف المشهد عن طبقة أوليغارشية تكنولوجية تحتمي بالتشريعات وتعيد هندسة الاقتصاد لخدمتها. يقف الفقراء اليوم وسط صراع تاريخي بين مجتمع تُسحق فيه الغالبية لمصلحة قلة مالكة للتكنولوجيا ورأس المال، وإمكانية بناء بديل يضع المعرفة والإنتاج في خدمة العدالة الاجتماعية. والسؤال يبقى: هل تنجح مصاريف الأمن والاختباء خلف الجدران العالية، كما فعل اللوردات قبيل الثورة الفرنسية، في حمايتهم طويلاً؟

إقرأ المزيد