صدمة الدولار الأميركي… هل تتقدّمه عملات أخرى كملاذ آمن؟
بتوقيت بيروت -

أحدثَ الرئيس الأميركي دونالد ترامب منذ عودته إلى البيت الأبيض هزّات متتالية في الاقتصاد الأميركي والعالمي، وتتواصل ترددات تلك الهزات حتى اليوم. لكنّ الخوف من زلزال يزعزع الاقتصاد الأكبر في العالم، يُقلق كبار الاقتصاديين ويتصدر تصريحات كبار المستثمرين والرؤساء التنفيذيين للبنوك الكبرى.

وقد شهدنا الدولار الأميركي يسجّل أسوا أداء له خلال الأيام المئة الأولى من الرئاسة الأميركية، في نحو نصف قرن، أي منذ عهد الرئيس الأميركي الراحل ريتشارد نيكسون.

خلال المئة يوم الأولى من ولاية ترامب الثانية، خسر مؤشر الدولار الأميركي نحو 9 في المئة من قيمته، ما دفعه نحو أكبر خسارة منذ عام 1973. في موازاة ذلك، سجّلت وول ستريت أسوأ خسائرها منذ عقود. فعلى سبيل المثال، تراجع مؤشر S&P 500 بنسبة 8 في المئة، منذ يوم تنصيب ترامب في 20 كانون الثاني وحتى نهاية أولى جلسات هذا الأسبوع. ويُعدّ هذا الانخفاض في المؤشر الأسوأ خلال المئة يوم الأولى من ولاية رئيس أميركي منذ عام 1970.

صعود الملاذات الآمنة
دعمت تراجعات الدولار مكاسب العملات الأخرى، إذ ارتفعت قيمة كلّ من اليورو والفرنك السويسري والين الياباني بأكثر من 8 في المئة مقابل الدولار الأميركي. ومن جهة أخرى، سجّل الذهب قفزات تاريخية، إذ ارتفع بنحو 22 في المئة خلال الأيام المئة الأولى من ولاية ترامب. كما ازداد الإقبال في الأسواق على الأصول العالية المخاطر، مثل العملات المشفّرة.

ويُبرّر الرئيس الأميركي فرضه للرسوم الجمركية التاريخية بأنها ستنقذ الميزان التجاري لبلاده، إلّا أن خطط ترامب لا تتوافق مع النظريات الاقتصادية. وكما هو معروف، فإن ضعف الدولار يعني أن المنتجات الأميركية تصبح أرخص في الأسواق العالمية، في حين ترتفع أسعار السلع المستوردة بسبب تراجع العملة المحلية. لكنّ الرسوم الجمركية لا تبدو عاملًا مساعدًا في حلّ الأزمات الاقتصادية، بل على العكس، فهي تفاقم مخاطر الركود وتُسرّع في خروج التدفقات المالية من الولايات المتحدة.

وفي أوقات الضبابية والأزمات، يتّجه المستثمرون نحو الملاذات الآمنة، التي اجتذبت اهتمامًا كبيرًا في الفترة الأخيرة. ومن أبرز هذه الملاذات، الين الياباني، الذي يُعرف بلقب “الملاذ الآمن”، لكونه من العملات الرئيسية المعتمدة عالميًا، ويتمتّع بدرجة عالية من الاستقرار. فاليابان تُعدّ ثالث أكبر اقتصاد في العالم بعد الولايات المتحدة والصين، كما أنها من أبرز الدول المصدّرة، ما يعزّز من قوّة عملتها.

كذلك، يتمتع الفرنك السويسري بجاذبية عالية كملاذ آمن، وقد أظهر أداءً مميزًا هذا العام. ففي شهر نيسان فقط، ارتفع بنحو 9 في المئة أمام الدولار الأميركي، مسجّلًا أكبر مكاسب شهرية له منذ الأزمة المالية العالمية في 2008. ويُعتبر الفرنك السويسري من أكثر العملات استقرارًا في العالم.

عملات تستفيد من ضعف الدولار
وقد أفاد تقرير لبنك غولدمان ساكس أن عملة كوريا الجنوبية “الوون”، و”الدولار السنغافوري”، و”اليوان” الصيني هي أبرز العملات المرشحة لجذب التدفقات في آسيا. ويرى البنك أن هذه العملات تستفيد في ظل المخاوف على الدولار. فكوريا الجنوبية تقترب من الانضمام إلى مؤشر “فوتسي” العالمي للسندات الحكومية العام المقبل، بينما بدأت سنغافورة، ذات التصنيف الائتماني (AAA)، في جذب استثمارات البنوك المركزية. أما العلاقات التجارية بين الصين والعالم، فتجعل اليوان “مرشحًا طبيعيًا” لعمليات إعادة تخصيص الاحتياطيات المحتملة.

قوة واشنطن وهيمنة الدولار
أما بالعودة إلى حالة الـ100 يوم الأولى للرؤساء الأميركيين خلال العقود الماضية، فيظهر لنا أن تلك المراحل تميزت بقوة العملة الأميركية، حيث كان متوسط العوائد يقارب 0.9 في المئة بين عام 1973، عندما بدأ ريتشارد نيكسون ولايته الثانية، وعام 2021، عندما تولى الرئيس السابق جو بايدن منصبه.

وعلى مدى نحو نصف قرن، هيمنت العملة الأميركية على التجارة العالمية. كما شكّلت السياسة الخارجية لواشنطن قوةً ضبطت إيقاع العلاقات الدولية، وأشعلت حروبًا وأخمدت أخرى. بالإضافة إلى ذلك، تُعتبر هيمنة الدولار على الساحة العالمية أداةً تساعد واشنطن في فرض عقوبات اقتصادية على دول عدة مثل فنزويلا وإيران وروسيا.

إهتزاز الثقة بالاقتصاد الأكبر
السؤال الذي يطرح نفسه اليوم هو: هل تهتزّ الثقة في الاقتصاد الأميركي والسياسة الأميركية؟ هذا ما بدأت تشير إليه التراجعات الحادة للعملة الخضراء وعمليات بيع سندات الخزانة الأميركية، التي لطالما كانت تُعتبر ملاذًا آمنًا، لا سيما في وقت الأزمات. ويتزايد القلق مع تسارع التضخم، وتصاعد مخاطر الركود، وارتفاع الدين الفدرالي بشكل كبير.

تجدر الإشارة إلى أنّ احتمال ارتفاع أسعار الفائدة على الدين الفدرالي المتضخم، الذي يشكل حوالي 120 في المئة من الناتج المحلي الإجمالي الأميركي، يعدّ أمرًا بالغ الخطورة.

من جهة أخرى، تُعدّ استقلالية البنك المركزي (الاحتياطي الفدرالي) مسألة بالغة الأهمية لضمان استقرار الأسعار على المدى الطويل، وكذلك لحماية صُنّاع السياسات من الضغوط السياسية. وعلى الرغم من أن ترامب تراجع عن نيّة إقالة جيروم باول، إلا أن انتقاداته اللاذعة وضغوطه المتكررة عليه لخفض أسعار الفائدة، تواصل إبقاء القلق قائمًا بشأن وضع الاحتياطي الفدرالي.

بيانات اقتصادية سلبيّة
لا بدّ أيضًا من الإشارة إلى أن التطورات الأخيرة الناجمة عن الرسوم الجمركية والتوترات التجارية العالمية لا تضغط فقط على آفاق النمو، بل تؤثر أيضًا على القطاعات التي تُعدّ عصب الاقتصاد الأميركي، مثل قطاعات الخدمات كالبنوك والتأمين، بالإضافة إلى قطاعات الصحة والتعليم. هذه القطاعات تتعرض لعدد من التحديات بسبب القرارات التي اتخذها الرئيس والتي لم تُبنَ في معظمها على معايير اقتصادية ومالية دقيقة.

ويبدو أن الإدارة الأميركية قد أدركت ذلك إلى حد ما، حيث تراجع ترامب عن بعض القرارات، وجمّد بعض الرسوم، وخفّف أخرى.

وقد بدأت نتائج التوترات التجارية بالظهور في أرقام الاقتصاد الأميركي، إذ انكمش الناتج المحلي الأميركي بنسبة 0.3% في الربع الأول من العام الحالي، بدلاً من تحقيق نمو متوقع بنسبة 0.3%، في ظل قفزة في الواردات بسبب المخاوف من زيادة الرسوم الجمركية.

كذلك أظهر تقرير الوظائف أن القطاع الخاص أضاف 62 ألف وظيفة فقط خلال شهر نيسان، وهو أدنى مستوى منذ تموز 2024. كما تظهر الآثار أيضًا في أداء الاقتصاد الصيني، حيث انكمش النشاط الصناعي في الصين بأكثر من المتوقع، ليصل إلى أدنى مستوى له منذ ما يقارب العامين، مُنزلقًا إلى منطقة الانكماش في شهر نيسان، في ظل تفاقم الحرب التجارية مع الولايات المتحدة التي أضرت بالتجارة الثنائية بين البلدين.

مكانة الدولار في خطر
رغم كلّ المخاوف التي تحيط بأداء الاقتصاد الأميركي، الذي بات أكثر عرضة للتقلبات، وتسيطر عليه سمة الاستهلاك ويعتمد بشكل كبير على قطاعات الخدمات، من المُبكر القول إنّ الدولار سيخسر مكانته في العالم. فالسلع العالمية تُتداول بالدولار، وهو عملة الاحتياط الدولية الأولى.

لكن كما نتابع على الساحة الدولية، بات الصراع بين واشنطن وبكين مفتاحًا أساسيًا يحرك اتجاه العملات. أما محاولة ترامب لإعادة تشكيل نظام التجارة العالمي فترفع مستوى الضبابية وتكشفُ المخاوف من ضعف الدولار الذي لطالما كان الملاذ الآمن للمستثمرين.
في هذا الإطار، حذّر دويتشه بنك من اتجاه هبوطي هيكلي للدولار الأميركي في السنوات المقبلة، ما قد يدفع العملة الخضراء إلى أدنى مستوياتها أمام اليورو خلال أكثر من عشر سنوات.

إلى ذلك، أشار تقرير لشركة “كابيتال إيكونوميكس” ومقرها لندن إلى أنه لم يعد من المبالغة القول إن وضع الدولار كاحتياطيّ ودوره المهيمن الأوسع نطاقًا أصبحا موضع شكّ إلى حد ما.

الخطط الصينية بعيدة المدى
هذا وقد بدأت الصين منذ سنوات تنفيذ خططها لتدويل عملتها اليوان، وهي تُسارِع في خطواتها بهذا الاتجاه، لا سيّما مع تفاقم حرب الرسوم الجمركية.

تبرم الصين منذ سنوات صفقات تجارية باليوان مع البرازيل لشراء المنتجات الزراعية، ومع روسيا لشراء النفط، ومع كوريا الجنوبية لشراء سلع أخرى.

كما تقدّم الصين قروضًا باليوان للبنوك المركزية التي تحتاج إلى السيولة في الأرجنتين وباكستان ودول أخرى، لتحلّ محل الدولار كمموّل للطوارئ.

تحالف بريكس في وجه القطب الواحد
العالم يتغيّر والسياسة تتغيّر ومعها خارطة التحالفات الدولية. وتبدو الصين خصمًا مرًا لواشنطن، “خطوة خطوة نحو تحقيق النهضة العظيمة للأمة الصينيّة”، على حدّ تعبير الرئيس الصيني تشي جينبينغ الذي يرى أنّ بلاده تدخل عصرًا جديدًا بإبداع.

كما نشهد نمو اقتصادات صاعدة بقوة كالاقتصاد الهنديّ. أما روسيا فلم تتمكن أقوى العقوبات في التاريخ من ترويضها.

ويُطرح تحالف بريكس كقطبٍ عالميّ ضخمٍ بمقوماته البشرية والاقتصادية، فهو يمثل نحو 40 في المئة من الناتج المحلي الإجمالي العالمي. وتمتلك المجموعة نحو 45 في المئة من إجمالي احتياطات النفط العالمي، و38 في المئة من إنتاج الغاز، و67 في المئة من إنتاج الفحم العالمي. كما تضم ثلاث دول نووية هي: روسيا والصين والهند.

في اجتماعاتها التي انعقدت بداية هذا الأسبوع في البرازيل، ناقشت دول البريكس سبل تعزيز التجارة متعددة الأطراف، وأهمية الدفاع عنها في مواجهة السياسات الأحادية. فهي تسعى إلى ترسيخ دورها كمدافع رئيسي عن نظام تجاري قائم على القواعد.

وإلى جانب قضايا كثيرة ملحّة على الساحة الدولية، ناقشت الدول تعزيز التعاملات المالية بالعملات المحلية بين دول بريكس، بدلاً من الاعتماد الحصري على الدولار الأميركي.

بالمحصّلة، إن عدم اليقين هو الوصف الذي يهيمن على الاقتصاد العالمي اليوم، فإلى متى سيصمد الدولار الأميركي على عرش العملات العالمية؟ وإلى أي حدّ ستنجح الدول الأخرى في كسر نموذج القطب الواحد؟ وكم تحتاج من الوقت لتحقيق ذلك؟

مصدر الخبر
نشر الخبر اول مرة على موقع :lebanoneconomy.net
بتاريخ:2025-05-02 05:34:00
الكاتب:hanay shamout
ادارة الموقع لا تتبنى وجهة نظر الكاتب او الخبر المنشور بل يقع على عاتق الناشر الاصلي



إقرأ المزيد