هل يسلبنا الذكاء الاصطناعي وظائفنا أم يمنحنا عملاً أذكى وحياة أغنى؟
ليبانون نيوز أونلاين -

هل يسلبنا الذكاء الاصطناعي وظائفنا أم يمنحنا عملاً أذكى وحياة أغنى؟

منذ بداية التاريخ الصناعي، وكل موجة تكنولوجية جديدة تُقابَل بخوفٍ قديم: “هل ستحلّ الآلات محلّ الإنسان”؟

لكن الحقيقة هي أكثر توازنًا: كل ثورة تكنولوجية هزّت سوق العمل مؤقتًا، ثم أعادت تشكيله بطريقة أوسع وأكثر تنوعًا. واليوم، يواجه العالم مع الذكاء الاصطناعي نفس السؤال، لكن بإيقاع أسرع بكثير.

غير أن ما يميّز دور الذكاء الاصطناعي، هو امكانية انحيازاته وتضمنه لقيم تنتمي الى المحتوى الذي تدرب عليه، أو انحياز مالكي تطبيقاته واستخدامها بشكل غير عادل وغير أخلاقي لتثبيت سيطرتهم أو تاسيس اقطاع رقمي جديد، أو حتى استعمار رقمي جديد، محلي أو عالمي. وهذه مسائل لا بد من اخذها بعين الاعتبار ومواجهتها، كما كتبنا في مقالات سابقة مفصلة.

كما أن تخلّف بعض المجتمعات، وسعيها لتأمين الخدمات الأساسية البديهية مثل مياه الشفة والكهرباء، لا يعفيها من ضرورة البحث في تطور الحياة والتقنيات الذكية والتخطيط والعمل الجاد للإنتقال الى مستقبل أفضل.

1. ما الذي يحدث فعلاً في سوق العمل؟

في الواقع، الذكاء الاصطناعي بدأ يستبدل بعض المهام، خصوصاً تلك التي تعتمد على التكرار والتنفيذ الآلي.

في أقسام خدمة الزبائن حول العالم، مثلاً، استطاعت برامج الذكاء الاصطناعي الرد على الأسئلة الشائعة بفعالية أعلى بـ 15٪ من أداء البشر، مما خفف العبء عن الموظفين وسمح لهم بالتركيز على الحالات المعقّدة التي تحتاج إلى فهم إنساني.

وفي عالم البرمجة، أظهرت دراسات من MIT وHarvard أن استخدام أدوات مثل GitHub Copilot جعل المبرمجين المبتدئين ينجزون مهامهم أسرع بنحو 50٪، مع جودة أعلى. لكن المثير أن هذه النتائج لا تلغي الحاجة للبشر — بل ترفع مستوى العمل نفسه.

2. الوظائف المهددة… ليست كلها خسائر

يقول ريد هوفمان، مؤسس LinkedIn: “أي وظيفة يُطلَب من الإنسان فيها أن يتصرّف مثل الآلة، فستُؤدَّى قريباً بواسطة الآلة.”

الفكرة ليست في أننا “نخسر” الوظائف، بل أننا نتخلّى عن الأعمال التي لا تستحق الجهد الإنساني أصلاً. فهل من المنطقي أن نقضي حياتنا في إدخال البيانات أو نسخ النصوص، بينما يمكن للذكاء الاصطناعي إنجاز ذلك خلال ثوانٍ؟

في المقابل، تظهر وظائف جديدة لم تكن موجودة أصلاً قبل سنوات، تحتاج إلى ما لا يمكن تقليده: الفكر، التحليل، التقييم، والإبداع. من هذه الوظائف اليوم:

• مصمم خبرات الذكاء الاصطناعي (AI Experience Designer): يبتكر طرق تفاعل إنسانية بين المستخدم والآلة تجمع بين الفهم النفسي والتصميم الإبداعي.

• مهندس المحادثة (Prompt Engineer): يصيغ الأسئلة والحوار مع النماذج الذكية بذكاء ليحصل على أفضل النتائج.

• محلل القرار المعزَّز بالذكاء الاصطناعي: يستخدم البيانات الذكية ليدعم قرارات اقتصادية أو طبية أو بيئية تعتمد على التقييم الإنساني.

• مسؤول أخلاقيات الذكاء الاصطناعي: يضع معايير العدالة والشفافية لمنع الانحياز وسوء الاستخدام في الأنظمة الذكية.

• مهندس الإبداع التوليدي: يوظّف الذكاء الاصطناعي لإنتاج أفكار ومحتوى فني جديد، مع الحفاظ على البعد الإنساني في الإبداع.

• مطوّر التفكير الإنساني في المؤسسات: يعزّز مهارات التفكير النقدي والإبداعي لدى الموظفين ليكملوا قدرات الذكاء الاصطناعي لا ليتنافسوا معه.

هذه المهن تجمع بين التقنية والخيال، بين المهارة الإنسانية والدقة الرقمية. في المستقبل، لن تُقاس قيمة العمل بعدد الساعات أو سرعة التنفيذ، بل بقدرة الإنسان على الفهم، والتحليل، والابتكار—وهي المهارات التي تزداد أهمية كلما أصبح الذكاء الاصطناعي أكثر حضورًا.

ومع ازدياد اعتماد الشركات على الذكاء الاصطناعي، ستحتاج إلى أشخاص مسؤولين عن تنمية مهارات التفكير النقدي والإبداعي لدى موظفيها. فكما ندرب النماذج التكنولوجية الذكية على التعلّم، علينا أن ندرب البشر على الوعي والتفكير المعقّد. إنها مهمّة المستقبل في التعليم، وتنمية الموارد البشرية، والإدارة الاستراتيجية.

إذن، الذكاء الاصطناعي لا يقتل التفكير البشري، بل يدفعه إلى مستويات أعلى. في حين كانت الوظائف في الماضي تقيس النجاح بمدى سرعة التنفيذ، فإن وظائف المستقبل ستقيسه بمدى عمق الفهم، وذكاء التقييم، وجرأة الابتكار.

أمثلة عالمية وعربية

• في أوروبا والولايات المتحدة، أصبحت شركات الإعلام الكبرى مثل Reuters وBloomberg تعتمد على فرق تحليل تجمع بين الصحفيين والمحللين الرقميين، لإنتاج تقارير مدعومة بالذكاء الاصطناعي مع رقابة بشرية صارمة.

• في اليابان، تُستحدث وظائف تسمّى AI Morality Advisors داخل الشركات لتقييم تأثير الأنظمة الذكية على ثقافة العمل والمجتمع.

• في الإمارات والسعودية، بدأت برامج تدريب جديدة تركّز على الذكاء العاطفي الرقمي (Digital Emotional Intelligence) ومهارات التفكير النقدي للمديرين الشباب، ليكونوا قادرين على قيادة فرق مدمجة من البشر والآلات.

• في مصر والأردن ولبنان، تظهر مبادرات ناشئة في تحليل البيانات الصحفية، وتقييم مصداقية الأخبار باستخدام مزيج من الذكاء الاصطناعي والتحليل الإنساني، ما يفتح المجال لمهنة “المدقّق الذكي للحقائق” – Smart Fact-Checker.

3. الدليل من التاريخ: التكنولوجيا تخلق أكثر مما تُلغي

حين ظهرت الآلة البخارية في القرن التاسع عشر، خسر ملايين الحرفيين أعمالهم، لكن سرعان ما وُلدت صناعات بأكملها حول النقل والتصنيع والطاقة. الأمر نفسه تكرر مع الكهرباء، والإنترنت، والهواتف الذكية. اليوم، يتكرر النمط ذاته مع الذكاء الاصطناعي.

تشير تقديرات البنك الدولي إلى أن الذكاء الاصطناعي قد يضيف نحو 7٪ للناتج المحلي العالمي خلال العقد القادم، أي ما يعادل تريليونات الدولارات من القيمة الجديدة.

في الهند مثلاً، رغم انخفاض التوظيف في البرمجة التقليدية بنسبة 20٪، فإن أعداد الشركات الناشئة في مجال الذكاء الاصطناعي تضاعفت ثلاث مرات خلال خمس سنوات، يقودها مهندسون شباب قرروا أن يكونوا “أصحاب تطبيقات وأدوات” لا “ضحايا تطبيقات وأدوات”.

4. التعليم السريع والتعلّم الذكي

تأثير الذكاء الاصطناعي لا يقتصر على المكاتب، بل يدخل الصفوف الدراسية أيضاً. حيث أظهرت التجارب في الولايات المتحدة وكوريا الجنوبية أن الطلاب الذين يتعلمون بمساعدة الذكاء الاصطناعي يتقدمون من 5 إلى 10 أضعاف أسرع من الطلاب في التعليم التقليدي.

وهذا يأخذنا سريعاً الى التفكير في مدى صلاحية الأنظمة التربوية والتعليمية التقليدية التي تحدد التعليم المدرسي بعدد محدد جامد من السنوات، وكذلك برامج التعليم الجامعي من الاجازة الى الدراسات العليا. وقد بدأنا نشهد اليوم انتشاراً كبيراً للشهادات السريعة Micro-Credentials، والتي بدأت تأخذ دورها وأهميتها في مجال التوظيف والعمل، وتعزيز وتدعيم التعليم التقليدي، وأحياناً الحلول محله.

في الإمارات، تُعتبر جامعة محمد بن زايد للذكاء الاصطناعي نموذجاً عربياً فريداً، إذ تُخرّج جيلاً من الباحثين القادرين على تطوير أدوات الذكاء الاصطناعي لا مجرد استخدامها. وفي السعودية، تتجه رؤية 2030 إلى تمكين مئات الآلاف من الشباب عبر برامج وطنية للذكاء الاصطناعي وريادة الأعمال الرقمية.

5. المخاوف المشروعة

من الطبيعي أن يشعر الناس بالقلق. لكن أكثر ما يجب أن نخشاه ليس “الذكاء الاصطناعي”، بل غياب الاستعداد له.

من أبرز المخاوف الواقعية:

• اختفاء فرص العمل المبتدئة، ما يصعّب دخول الشباب إلى سوق العمل الوظيفي.

• اتساع الفجوة بين من يمتلك المهارات الرقمية ومن لا يمتلكها.

• تفاوت السرعة بين الدول: فبينما تستثمر الولايات المتحدة والصين في الذكاء الاصطناعي بشكل ضخم، لا تزال بعض الدول الأخرى ومن بينها معظم الدول العربية في بداياتها. ومع ذلك، تُظهر مبادرات مثل “الاستراتيجية الوطنية للذكاء الاصطناعي” في الإمارات، و“القمة العالمية للذكاء الاصطناعي” في السعودية، أن المنطقة بدأت تتحرك في الاتجاه الصحيح.

6. من الخوف إلى العمل: كيف نواكب التحوّل؟

للأفراد:

• تعلّم كيف تستخدم الذكاء الاصطناعي كمساعد وليس كخصم.

• طوّر مهارات التفكير النقدي، والتواصل، والتحليل—فهي التي تميز الإنسان عن الآلة.

• حوّل نفسك إلى مشروع دائم التطور. فالشهادة الجامعية لم تعد نهاية الطريق، بل مجرد بداية رحلة طويلة من التعلّم الذاتي والتعاوني المستمر.

• أنشئ مشروعك الخاص، ولو صغيرًا. فأدوات الذكاء الاصطناعي جعلت الريادة في متناول الجميع.

للمؤسسات:

• لا تجعل هدفك استبدال البشر، بل رفع كفاءتهم. أعد تعريف الوظيفة لا العامل.

• الذكاء الاصطناعي ليس خصم الموظف، بل شريكه. الشركات التي تنجح ليست تلك التي تسرّح العمال وتشتري روبوتات وتطبيققات ذكية، بل التي تعيد توزيع المهام بذكاء.

• صمّم وظائف جديدة تجمع بين الإبداع الإنساني والدقة الرقمية، حيث يُعاد تعريف مهام العامل بحسب الأدوات التي يمتلكها ويجيد استخدامها.

• استثمر في تدريب موظفيك أكثر مما تستثمر في الأدوات نفسها. والتدريب هنا ليس تقنياً فقط، بل يشمل الإبتكار وأنماط التفكير الحديث والمعمّق.

• قم بقياس النجاح بمعيار “الوقت المُحرّر” لا فقط بمعيار الأرباح. فالنجاح في عصر الذكاء الاصطناعي ليس كم وفّرت من الرواتب، بل كم حرّرت من الوقت البشري للإبداع والتفكير. فكل دقيقة ينقذها الذكاء الاصطناعي من المهام الروتينية، هي دقيقة يمكن استثمارها في فكرة جديدة، وفي موظف سعيد، أو في تحسين جودة العمل.

للحكومات:

• اجعل التعليم أكثر مرونة وربطًا بسوق العمل، وحوّله إلى تجربة تفاعلية جاذبة مدعومة بالذكاء الاصطناعي.

• لا تنتظر حتى يفقد الناس وظائفهم. بل وفّر مظلات دعم للمهن المعرّضة للأتمتة، وبرامج “التدريب أثناء العمل”، حيث يحصل الفرد على دخل أساسي أثناء انتقاله من مهنة إلى أخرى. كذلك، وفّر حوافز ضريبية للشركات التي تختار تدريب موظفيها بدلاً من استبدالهم.

• ادعم ريادة الأعمال الرقمية لتصبح الوظائف الجديدة مصدر دخل وكرامة للشباب. وذلك من خلال تحفيز الابتكار المحلي. في السعودية والإمارات ومصر مثلاً، ظهرت صناديق استثمارية مخصّصة لدعم الشركات الناشئة في الذكاء الاصطناعي، ما يفتح الباب أمام اقتصاد عربي جديد مبني على التطبيقات الذكية والمعرفة الرقمية والإبداع.

7. الذكاء الاصطناعي لا يقتل الوظائف… بل يُحرّر الإنسان من بعضها

الذكاء الاصطناعي ليس خصماً لنا، بل مرآة لقدراتنا. إنه يحرّرنا من المهام التي تُرهقنا وتستهلك وقتنا، ليمنحنا فرصة القيام بما لا يستطيع هو فعله: الابتكار، والتعاطف، والرؤية، والإلهام. فهو بذلك لا يسرق منا العمل، بل يسرق منا الملل، ويزيل عنّا الأعباء التي تجعلنا سجناء الروتين والتكرار، ويمنحنا فرصة للعودة إلى جوهرنا الإنساني.

ففي الطب مثلاً، الذكاء الاصطناعي لم يلغِ دور الأطباء، بل حرّرهم من كتابة التقارير المتكررة والطويلة، ليقضوا وقتاً أطول مع المرضى.

وفي التعليم، لم يلغِ المعلمين، بل منحهم وقتاً أكبر لفهم طلابهم وتوجيههم فرديًا.

وفي الأعمال، لم يلغِ المديرين، بل أتاح لهم رؤية أعمق لاتخاذ قرارات أسرع وأذكى وأكثر استشرافاً.

الذكاء الاصطناعي هو أداة تضاعف أثر الإنسان وقدرته على التفكير والابتكار، تماماً كما ضاعفت الكهرباء قوّته الجسدية، والإنترنت قدرته على التواصل.

في أدبيات الفكر التكنولوجي الحديث، يقول إريك برينجولفسون (Erik Brynjolfsson) في كتابه The Second Machine Age، أن التكنولوجيا لا تُقصي الإنسان بل “تضاعف” إنتاجيته. ويقول يوفال نوح هراري (Yuval Noah Harari) أن دور الآلات هو “توسيع قدرات الإنسان لا محوه”. ويكرّر بيتر ديامانديس في محاضراته أن الذكاء الاصطناعي هو “مكبّر لقدرات البشر” (Human Amplifier).

وقد علّم أنطون سعاده منذ سبعة عقود، أننا “لا نعدّ الآلة مصيبة للبشرية ولا مستعبدة للناس بل نعمة للبشرية ومحرّرة للناس… سوء الحالة الاقتصادية ليس من الآلة بل من النظام السيّىء الذي تنمّيه النظرة الفردية اللامسؤولة عن المصير القومي”. وتابع أن “نهضتنا تريد أن تحرر الآلة من استبداد النظرة الفردية… والذين يُحرمون من أعمالهم بسبب الآلة تصرفهم نهضتنا إلى أعمال أخرى ولا تحرمهم من نصيبهم من الإنتاج”.

لذا، يمكن القول أن الخطر ليس في الآلة، بل في الإنسان الذي لا يعرف قيمته أمامها، ودوره الاجتماعي. من يخاف الذكاء الاصطناعي سيعمل لديه، ومن يفهمه سيجعله يعمل لأجله ولأجل مجتمعه، شرط أن لا يستخدمه لترسيخ أنواع جديدة من الفردية والاقطاع الرقمي. المستقبل لا يصنعه من يخافون الذكاء الاصطناعي، بل من يستخدمونه بشكل فعّال وأخلاقي لبناء حياة أغنى ومجتمع أرقى وعالم أفضل.



إقرأ المزيد