بين التاريخ والراهن… معارك غير متكافئة تكسر أسطورة القوة
بيروت تايم -

ليست معركة مؤتة حدثًا هامشيًا في تاريخ الإسلام، تمامًا كما أن حرب غزة اليوم ليست مجرد مواجهة عسكرية جديدة بين المقاومة الفلسطينية والكيان الإسرائيلي. ما يربط بينهما أعمق من السياق العسكري؛ إنهما تجسيد لمعنى المعركة غير المتكافئة، حيث يواجه طرف صغير بإمكاناته المحدودة قوةً عظمى مدججة بالسلاح والعدة والدعم. ورغم ذلك، تتحول هذه المواجهة إلى لحظة كاشفة: تعيد تعريف معنى النصر والهزيمة، وتفتح المجال لمرحلة تاريخية جديدة.

مؤتة: بداية الوعي بقدرة المستضعفين على مقارعة الإمبراطوريات

في السنة الثامنة للهجرة، أرسل النبي محمد ﷺ جيشًا قوامه ثلاثة آلاف مقاتل فقط إلى أرض الشام، لمواجهة قوة الروم وحلفائهم الغساسنة. حسابات المنطق العسكري تقول إن المسلمين كانوا ذاهبين إلى انتحار؛ فالأعداد تذكر عشرات الآلاف وربما مئتي ألف مقاتل مقابل بضعة آلاف. ومع ذلك، لم يكن الهدف نصرًا عسكريًا ساحقًا، بل إثبات الوجود السياسي والعسكري، وتأكيد أن قوة ناشئة يمكنها أن تضع نفسها على خريطة الصراع الدولي.

المشهد الأكثر بروزًا في مؤتة هو تسلسل القيادة: زيد بن حارثة، جعفر بن أبي طالب، ثم عبد الله بن رواحة. التضحية بالقيادة لم تكن هزيمة، بل رسالة: أن القيادة لا تُفارق الصفوف الأمامية، وأن الدم هو جواز عبور أي مشروع مقاوم. هذه الروح تحولت لاحقًا إلى قاعدة: معركة قد تُصنف عسكريًا كهزيمة، لكنها سياسيًا ونفسيًا كانت فتحًا مبكرًا لطريق اليرموك وما بعدها.

غزة: مؤتة العصر

إذا كانت مؤتة أول احتكاك مباشر بين المسلمين وإمبراطورية عظمى، فإن غزة اليوم هي مؤتة العصر الحديث. المقاومة الفلسطينية – المحاصرة منذ عقود – تواجه جيشًا هو الأكثر تسليحًا في المنطقة، مدعومًا بترسانة أميركية وغربية غير محدودة، وبغطاء سياسي دولي يتيح له ارتكاب المجازر دون حساب.

الفارق في موازين القوى لا يحتاج إلى برهان: طائرات إف-35، صواريخ دقيقة، أقمار صناعية، تكنولوجيا تجسس، مقابل مقاتلين يعتمدون على الأنفاق، وصواريخ محلية الصنع، وعبوات ناسفة. ومع ذلك، يتكرر المشهد: ما يبدو “انتحارًا” على الورق يتحول إلى صمود أسطوري يقلب المعادلة.

غزة اليوم تذكّر مؤتة بالأبعاد نفسها:

  • قادة يُستشهدون واحدًا تلو الآخر لكن الراية لا تسقط.
  • دماء تتحول إلى رسالة سياسية أكبر من أي بيان دبلوماسي.
  • انسحاب تكتيكي هنا، صمود هناك، لكن جوهر المعركة أن الطرف الأقوى يكتشف حدود قوته.

سقوط أسطورة القوة المطلقة

الإمبراطوريات دائمًا ما تبني مشروعها على أسطورة التفوق المطلق. الروم في مؤتة كانوا يتعاملون مع العرب باعتبارهم مجرد قبائل مشتتة لا تملك وزنًا. “إسرائيل” اليوم بنت مشروعها على مقولة “الجيش الذي لا يُقهر”. لكن في اللحظتين التاريخيتين، ظهرت الحقيقة: التفوق العسكري لا يضمن النصر السياسي.

لم يهزم المسلمون الروم في مؤتة، لكنهم منعوهم من سحقهم وأثبتوا قدرتهم على الصمود أمام قوة عظمى، وأثبت أن المواجهة ممكنة. المقاومة في غزة قد لا تهزم “إسرائيل” عسكريًا، لكنها تمنعها من تحقيق أهدافها: لم تستطع القضاء على حماس، لم تستطع إخضاع القطاع، ولم تستطع منع ارتدادات إقليمية ودولية تهدد وجودها المعنوي.

المعركة غير المتكافئة: تعريف جديد للنصر

المعادلة الكلاسيكية للنصر والهزيمة تتغيّر حين يكون الصراع غير متكافئ. في مؤتة، كان مجرد النجاة بالجيش، وتكبيد العدو بعض الخسائر، إنجازًا. في غزة، مجرد استمرار المقاومة، وإطلاق الصواريخ، وإفشال خطط الاحتلال، يُعتبر نصرًا بحد ذاته.

هذه المعارك تضع معيارًا جديدًا:

  • النصر هو الاستمرار، القدرة على البقاء، وحرمان العدو من تحقيق أهدافه.
  • الهزيمة هي الاستسلام، فقدان الإرادة، أو سقوط المشروع السياسي.

من هذا المنظور، مؤتة كانت نصرًا استراتيجيًا رغم الخسائر، وغزة اليوم هي نصر بالمعنى ذاته: لم يعد أحد يصدق أن إسرائيل قوة لا تُقهر، ولم يعد أحد يتوهم أن العرب الرسميين قادرون على إلغاء صوت المقاومة.

الرمزية: الدم كرسالة سياسية

لا يمكن تجاهل البعد الرمزي في الحالتين. مشهد جعفر بن أبي طالب وهو يقاتل حتى قُطعت يداه صار أيقونة في الوعي الإسلامي المبكر، مثلما صار مشهد المقاومين في غزة وهم يخرجون من الأنفاق أو يصمدون تحت القصف رمزًا للأمة المعاصرة.

القوة الكبرى – الروم قديمًا، “إسرائيل” اليوم – لا تفهم الرمزية. هي تحسب الأرقام: كم قُتل، كم دُمّر، كم صُرف. لكن الشعوب تفهم أن صورة طفل يخرج من تحت الركام قد تهزّ عروشًا أكثر مما تهزّها الصواريخ. هنا تكمن الرسالة السياسية للدم: أنه يخلق شرعية تتجاوز كل المؤتمرات والقمم.

الغياب العربي الرسمي: من الغساسنة إلى القمم

في مؤتة، كان العرب الغساسنة حلفاء للروم، يقاتلون أبناء جلدتهم دفاعًا عن مصالح الإمبراطورية. اليوم، بعض الأنظمة العربية تقوم بالدور نفسه: حراسة مصالح واشنطن وتل أبيب، والتغطية على جرائم الحرب بالبيانات الباردة والقمم الفارغة.

وكأن التاريخ يعيد نفسه: جزء من الأمة يتحالف مع القوة المهيمنة، بينما جزء آخر يقاتل وحيدًا. لكن النتيجة دائمًا أن الدماء تصنع شرعية أقوى من التحالفات.

الدرس الاستراتيجي: البقاء مفتاح الانتصار

من مؤتة إلى غزة، العبرة الأساسية هي أن البقاء في الميدان، وعدم الاستسلام، كافيان لإحداث تحوّل تاريخي. لم يكن ممكنًا فتح الشام لو لم تحدث مؤتة. ولم يكن ممكنًا أن تتحول فلسطين إلى قضية عالمية لو لم تصمد غزة.

الإمبراطوريات تنهار من الداخل حين تكتشف أن قواها الهائلة عاجزة عن إخضاع حفنة من المقاتلين المؤمنين بقضيتهم. مؤتة كانت بداية الشك في قدرة الروم على الهيمنة المطلقة. وغزة اليوم هي بداية النهاية لأسطورة “إسرائيل التي تسيطر على كل شيء”.

غزة ليست وحدها

إذا كانت مؤتة قد أعطت المسلمين وعيًا جديدًا بقدرتهم على مواجهة إمبراطورية عظمى، فإن غزة تعطي اليوم العالم درسًا مشابهًا: أن قوة “الدولة العظمى” ليست قدرًا أبديًا، وأن موازين القوى يمكن أن تتغير حين تتوفر الإرادة.

الدماء التي سالت في مؤتة لم تذهب عبثًا، بل فتحت طريق اليرموك ودمشق والقدس. والدماء التي تسيل اليوم في غزة لن تذهب عبثًا أيضًا؛ إنها تفتح الطريق نحو وعي جديد بأن الاحتلال ليس أبديًا، وأن الحرية، مهما طال الزمن، ممكنة.

بهذا المعنى، يمكن القول إن غزة هي مؤتة القرن الحادي والعشرين: معركة غير متكافئة، لكنها كافية لتكسر أسطورة القوة المطلقة، وتكتب بداية مرحلة جديدة في الصراع.



إقرأ المزيد