سيدار النيوز - 11/21/2024 10:04:17 PM - GMT (+2 )
لا أزال إنساناً قديماً، هكذا اعتبر نفسي عندما أتعامل مع التلفزيون، لا يمكنني التخلي عمّا اعتدت عليه منذ صغري؛ أن أنتظر مسلسلي المفضل، أو نشرة الأخبار الرئيسية، أو برنامجاً يثري معرفتي في ساعة محددة، رغم أني لم أتجاوز الخامسة والثلاثين من عمري، إلا أن الالتزام الذي يضفيه التلفزيون على حياتي يطغى على مواكبتي لتكنولوجيا الشاشات الذكية في عالم البث.
هذه قصتي مع التلفزيون والتي دفعتني لأن أكتب محتفلاً بيومه العالمي الذي حدّدته الجمعية العامة للأمم المتحدة في 21 من نوفمبر/تشرين الثاني من كل عام، إحياءً لذكرى اليوم الذي انعقد فيه أول منتدى عالمي للتلفزيون.
وبحسب الأمم المتحدة، فقد جاء هذا الحدث بوصفه اعترافاً بالتأثير المتزايد للتلفزيون في عملية صنع القرار، وهو ما يعنى الاعتراف بالتلفزيون كوسيلة أساسية في إيصال المعلومة إلى الرأي العام والتأثير فيه.
وتقول الأمم المتحدة إن اليوم العالمي للتلفزيون ليس احتفاءً بأداة بقدر ما هو احتفاء بالفلسفة التي تعبر عنها هذه الأداة.
وبينما تتحكم ساعة تلفزيونية بعقارب ساعتي اليومية، فإن التلفزيون بالنسبة لطارق نصير، 58 عاماً، ليس مجرد شاشة، بل هو جزء من نمط حياة.
ويضيف: منذ صغري وأنا أنتظر مواعيد البرامج والمسلسلات بفارغ الصبر، وأعتبر هذه المواعيد طقوساً يومية. الأخبار تأتي في وقت محدد، المسلسل في وقت محدد، وهذا يجعل يومي منظّماً. “أما الشاشات الذكية، فأشعر أنها تسرق الإحساس بالانتظار والالتزام”.
وفي تعليقه على تأثير التكنولوجيا على المشاهدة التلفزيونية، لا ينكر نصير فوائدها، لكنها “أضاعت روح المشاركة”، بحسب رأيه.
“في الماضي، كنا نتحدث كعائلة عن المسلسل الذي شاهدناه معاً أو الأخبار التي تابعناها. اليوم، كل شخص يشاهد شيئاً مختلفاً بمفرده. أفتقد تلك اللحظات الجماعية”، بحسب نصير.
كيف تطور التلفزيون عبر العقود؟منذ اختراع التلفزيون في أوائل القرن العشرين، شهد الجهاز تطوراً هائلًا على مر العقود. بدأت أجهزة التلفزيون بمظهر بسيط وتقنيات محدودة، لكنها أصبحت الآن جزءاً أساسياً من حياتنا اليومية، وتطورت بشكل كبير في جوانب عدة مثل الجودة، وتقنيات البث، والمحتوى. في هذا السياق، نلقي الضوء على أبرز مراحل تطور التلفزيون عبر التاريخ.
نشأة التلفزيون (1920-1930)
التطور الأولي للتلفزيون كان نتاجاً لاكتشافات علمية عدة في مجال البث الإشعاعي والصورة المتحركة، ففي عام 1927، قدم العالم الأمريكي فيلكس بيتيرسون أول بث تلفزيوني باستخدام أنابيب الكاثود، بينما كان الباحث جون بيرد في بريطانيا أول من أرسل إشارات تلفزيونية من خلال الأسلاك، مما يعد خطوة هامة نحو مفهوم التلفزيون الحديث.
وفي الأربعينات والخمسينات، أصبح التلفزيون تقنية منتشرة بشكل تدريجي، وأصبح متاحاً للبث العام في العديد من البلدان، وفي هذه الفترة، كان التلفزيون يقتصر على بث البرامج بالأبيض والأسود، بينما كانت التجارب مستمرة لإنتاجه بالألوان منذ عام 1928.
التلوين (1950 – 1970)
بعد تداعيات الحرب العالمية الثانية، ووفاة البريطاني جون بيرد الذي قدّم عروضاً كثيرة للتلفزيون الملون قبل اعتماده رسمياً، انتقلت التجارب إلى أمريكا، وفي أوائل الستينات، قدمت الشركات الأمريكية أول بث تلفزيوني بالألوان، ليشكل هذا ثورة حقيقية في طريقة تقديم المحتوى المرئي.
التلفزيون الرقمي (1980 – 2000)
مع بداية التسعينات، دخل التلفزيون مرحلة جديدة من التطور مع ظهور التلفزيون الرقمي والقنوات الفضائية، إذ أسهمت هذه التقنيات في تحسين جودة الصورة والصوت، وتمكن المشاهد من متابعة مجموعة واسعة من القنوات المتخصصة، فقد أصبح البث الفضائي متاحاً وبدأ استخدام الستالايت في معظم أنحاء العالم، مما سمح بانتشار قنوات فضائية عالمية.
التلفزيون عالي الدقة (HD) (2000 إلى 2010)
في العقد الأول من القرن الواحد والعشرين، ظهرت تقنية التلفزيون عالي الدقة (HD)، والتي قدمت صورة أكثر وضوحاً وتفاصيل دقيقة، إضافة إلى تحسين الصوت بشكل ملحوظ، وتطورت التقنيات أيضاً لتشمل البث عبر الإنترنت من خلال منصات مثل يوتيوب ونتفليكس، التي بدأت في تغيير الطريقة التي يستهلك بها الناس المحتوى التلفزيوني.
البث عبر الإنترنت والبث التفاعلي (2010 – 2020)
في العقدين الأخيرين، بدأ البث عبر الإنترنت يأخذ زمام القيادة، مما أحدث تحولًا كبيراً في صناعة التلفزيون، ونشأت منصات أصبحت تهيمن على كيفية استهلاك الجمهور للمحتوى.
التلفزيون 4k و 8k (2020 – وقتنا الحاضر)
وفي العقد الحالي، بدأ التلفزيون يتجه نحو دقة عرض أعلى، مما يوفر للمشاهدين صوراً أكثر وضوحاً وتفاصيل فائقة الدقة، كما أن الواقع الافتراضي (VR) والواقع المعزز (AR) أصبحا جزءاً من تجربة المشاهدة في بعض التطبيقات.
“أشعر وكأن الوقت فقد قيمته”ومع دخول الشاشات الذكية، والتطبيقات عالم التلفزيون، بات الناس أمام حرية مشاهدة أوسع، بعيداً عن القيود المهنية والأخلاقية التي تفرضها القنوات التلفزيونية على المحتوى، وأصبح لدى كل فرد حرية اختيار المحتوى الذي يتابعه وفي الوقت الذي يراه مناسباً.
سألتُ نُصير، عمّا إذا كانت خيارات المشاهدة حسب الطلب تغنيه عن الالتزام بوقت محدد، فكان ردّه أن الالتزام بمواعيد البث يمنحنه شعوراً بالانضباط.
ويقول: “عندما أعرف أن الأخبار الساعة الثامنة أو المسلسل الساعة التاسعة، أرتب وقتي على هذا الأساس، أما إذا كان كل شيء متاحاً في أي وقت، أشعر وكأن الوقت فقد قيمته”.
وينتقد الشاشات الذكية رغم اقتنائها في منزله “لأن أبناءه شباب ويواكبون التكنولوجيا المتطورة”، بحسب قوله، معتبراَ أن التنقل بين التطبيقات والقوائم معقدٌ بالنسبة له، مقارنة بجهاز التحكم البسيط للتلفزيون، كما أنه يفضل الشاشة الكبيرة، على متابعة أي محتوى على الشاشات الذكية الصغيرة.
ويقول: “التلفزيون بالنسبة لي أم الشاشات”.
توافق سميرة الكايد، 68 عاماً، الرأي بالقول إن انتظار المسلسل التلفزيوني في ساعة معينة له شعور خاص، شغف انتظار ما سيحدث في حلقة يوم غد شيء مميز بالنسبة لها، لا تستطيع أن تستغني عنه رغم قدرتها على متابعة الحلقات جميعا في وقت واحد كما توفرها تطبيقات البث الجديدة.
لم تتغير عادات المتابعة التلفزيونية للكايد على مر العقود، فمسلسل سهرة المساء لا يزال له ساعة محددة في يومها.
وتقول الكايد، وهي ربّة منزل، أن التلفزيون يلبّي احتياجاتها من حيث المحتوى الذي ترغب في متابعته، وأن ما توفره تطبيقات البث الحديثة “مبالغ به” بحسب رأيها، ويُفقدها “المتعة الخاصة” التي تضفيها المتابعة التلفزيونية.
أما بالنسبة للأخبار، فهي تعتمد التلفزيون والتطبيقات ومواقع التواصل الاجتماعي كمصادر، دون تفضيل لأي منها على الآخر.
“الجمهور أصبح أكثر انتقائية وتفاعلية”وتؤكد الدكتورة بيان القضاة، أستاذة الإعلام الرقمي، في حديثها لبي بي سي بمناسبة “يوم التلفزيون العالمي”، على الدور المحوري الذي لعبه التلفزيون في تشكيل الثقافة المجتمعية في العالم العربي خلال العقود الماضية.
وتوضح القضاة أن التلفزيون كان الوسيلة الأساسية التي تساهم في نقل الأخبار، وترفيه الجمهور، وتعليم فئات المجتمع بشكل غير مباشر، مما جعل له تأثيراً كبيراً في نشر اللهجات المحلية، وتعزيز الهوية الوطنية، وزيادة الوعي بالقضايا الاجتماعية والسياسية.
ومع ظهور عصر البث الرقمي وتنامي منصات الفيديو تغير تأثير التلفزيون بشكل جذري، بحسب القضاة، التي تشير إلى أن الخيارات المتعددة أصبحت متاحة الآن للجمهور، ما يسمح لهم بالوصول إلى محتوى متنوع من ثقافات ولغات مختلفة، “هذا التوسع أسهم في التأثير على الهوية الثقافية المحلية”، وفتح المجال لما وصفته بالعولمة الثقافية.
وفي الوقت ذاته، ترى القضاة أن الجمهور أصبح أكثر انتقائية وتفاعلية، “ما أدى إلى تراجع هيمنة التلفزيون التقليدي كمصدر رئيسي للمعلومات والترفيه”.
تطرقت القضاة أيضاً إلى دور التلفزيون البارز في تشكيل الرأي العام، لا سيما في العالم العربي، وأوضحت أن التلفزيون كان له دور أساسي في تغطية الأحداث السياسية الكبرى والثورات، وأبرز مثال على ذلك هو تأثير التغطية التلفزيونية لأحداث الربيع العربي، “إذ تمكن التلفزيون من نقل الأحداث بشكل واسع وبث أصوات العديد من الفئات المهمشة في المجتمعات العربية”.
“مع مرور الوقت، تراجع هذا الدور بسبب ظهور وسائل التواصل الاجتماعي ومنصات الفيديو التي أفسحت المجال للأفراد لبث الأخبار وتشكيل الرأي العام بشكل مستقل”، بحسب القضاة.
ورغم ذلك، أكدت القضاة أن التلفزيون لا يزال يحتفظ بمكانته المؤثرة، خاصة بين الأجيال الأكبر سناً وفي المناطق التي ما تزال فيها معدلات استخدام الإنترنت منخفضة.
أما في ما يتعلق بتأثير التقنيات الحديثة على التلفزيون، فقد أشارت القضاة إلى أن البث الرقمي، ومنصات الفيديو عند الطلب (OTT)، بالإضافة إلى التكنولوجيا التفاعلية، غيرت بشكل جذري من دور التلفزيون التقليدي، ففي الماضي، كان التلفزيون الوسيلة الإعلامية الوحيدة أو الرئيسية التي يعتمد عليها الجمهور، ولكن الآن أصبح التلفزيون جزءًا من نظام إعلامي متعدد المنصات.
التلفزيون التقليدي بمواجهة العصر الرقميوعن التحديات التي يواجهها التلفزيون التقليدي في هذا العصر الرقمي، وما إذا كان هذا العصر سيدفعنا للاستغناء عن التلفزيون، تقول القضاة في حديثها مع بي بي سي: “أحد التحديات الكبرى هو تراجع عدد المشاهدين التقليديين، خاصة مع زيادة المنافسة من المحتوى الرقمي الذي تقدمه منصات مثل يوتيوب ونتفليكس، إلى جانب صعوبة جذب الفئات الشابة التي تفضل الاستهلاك الترفيهي والتعليم عبر الإنترنت”.
لكن، وبالرغم من هذه التحديات، أضافت القضاة أن هذه التحولات تحمل أيضاً فرصاً كبيرة للتلفزيون، مثل إمكانية التخصيص الكبير للمحتوى، والوصول إلى جمهور عالمي، فضلاً عن استخدام التكنولوجيا مثل الواقع الافتراضي والذكاء الاصطناعي لتحسين تجربة المشاهدة.
وفي هذا السياق، لفتت القضاة، والتي عملت سابقاً لسبع سنوات في أول مدينة إعلامية أردنية احتضنت قنوات تلفزيونية عربية وعالمية منذ عام 2001، إلى أن هذه التحولات تمثلُ تحولًا نوعياً قد يكون دافعاً رئيسياً لتلفزيون المستقبل كي يواكب احتياجات العصر الرقمي ويوازي تطور وسائل الإعلام الحديثة بدلًا من أن يتراجع دوره.
كنتُ قد التقيت بصديق لي في أحد المقاهي، إنه زيد، شاب يصغرني بالعمر، أعتقد أنه في أواخر العشرينات، وبعد أن تبادلنا السلام، قال لي إنه جاء ليقضي ساعة من الوقت خارج المنزل، بعيداً عن أجواء العائلة، لكن فضولي دفعني لأن أسأله عما يزعجه من العائلة في هذه الساعة.
جاءت الإجابة كما توقعتها، فالثامنة مساءً بالنسبة لوالديه هي ساعة مسلسلهم المسائي المفضل، ولا يمكنهم التفريط في تلك اللحظات، وهو ما لا يستطيع زيد أن يتحمله، فهو يرى أن منصة واحدة قادرة على أن تختصر عشرات الساعات من الجلوس أمام التلفزيون في ساعتين، بحسب قوله.
حدّثته عن فكرة التقرير الذي تقرأه الآن، وطلبت منه أن يتصل بوالده، فقط لأستشعر قدسية هذه الساعة بالنسبة للعائلة، لكن العم “أبو زيد” لم يجب على اتصالنا، إلا بعد مرور حوالي الساعة، فأدركنا أن المسلسل قد انتهى.
تحدثت إلى “أبو زيد”، ضحكنا كثيراً على ما يراه من فوارق بين الحديث والقديم، كانت من أمتع المحادثات بالنسبة لي، لكن ما اختصر عشرين دقيقة من الكلام جملة واحدة قالها لي: “لكل زمن جيل، ولكل جيل عادة”.
لا يعلم العم “أبو زيد” أنني من هذا الجيل، لكن عاداتي في مشاهدة التلفزيون تعود لجيل سابق.
على كل حال، إن كنت تقرأ هذا التقرير وساعتك الذكية تشير إلى السادسة مساءً فأنا الآن في طريقي إلى النادي الرياضي، لأنهي تدريباً مدته ساعة ونصف، قبل أن أعود إلى المنزل وأتابع المسلسل ذاته عند الثامنة، فأنا متحمس لحلقة جديدة، موجودة على المنصات منذ أربعة أيام.
هذا أنا في علاقتي مع التلفزيون، فماذا عنك أنت؟
Powered by WPeMatico
مسؤلية الخبر: إن موقع "سيدر نيوز" غير مسؤول عن هذا الخبر شكلاً او مضموناً، وهو يعبّر فقط عن وجهة نظر مصدره أو كاتبه.
إقرأ المزيد