موقع التيار - 3/14/2025 5:04:08 AM - GMT (+2 )

الأخبار: المشرق العربي-
تواصل إسرائيل مساعيها لتحقيق أهدافها الاستراتيجية الطويلة الأمد في سوريا، والتي تتمحور حول فصل الجزء الجنوبي من الجغرافيا السورية، عن مركز السلطة في دمشق. وهي استراتيجية لا تتأثّر بطبيعة الحال، بهوية النظام الحاكم أو قوّته، بل تهدف خصوصاً إلى تمهيد الطريق للسيطرة على هذا الجزء من سوريا بشكل مباشر أو غير مباشر، إذ تشير العمليات العسكرية الأخيرة، ومن ضمنها الهجمات الجوية المكثّفة وتدمير البنية التحتية العسكرية، بوضوح، إلى أن إسرائيل تعمل على إفراغ تلك المنطقة من سيطرة المركز السوري، ومنع الأخير من استعادة نفوذه عليها لاحقاً، وهو ما لا يمكن تنفيذه من دون موافقة و«سماح» أميركيَّيْن.
لكن، هل يستمرّ هذا الدعم؟ سؤال يبدو منطقياً في ظلّ المقاربة الأميركية اللامنطقية إزاء سوريا، والتي تسعى إلى ضمّ هذا البلد موحّداً إلى اتفاقات التطبيع مع إسرائيل، وفي الوقت نفسه توزيع جغرافيته مناطقَ نفوذ على الجهات الإقليمية والدولية الفاعلة، والتي تتنافس في ما بينها على تحديد مساحات النفوذ المسموح بها لكلّ منها، بغضّ النظر عن المسمّيات الرسمية أو الإطار التنظيمي أو الترتيبات السياسية المعلنة للبلد. ومن جهتها، وفي إطار مساعيها للسيطرة على الجنوب، قامت إسرائيل بتوسيع وجودها العسكري هناك، ما فرض واقعاً جديداً، شمل الاستيلاء على مواقع استراتيجية، وتنفيذ توغّلات برّية، وهو ما تظن أنه سيسهّل عملية «إغراء» الطائفة الدرزية وبقية السكان المحلّيين بإعلان استقلالهم تحت رعاية إسرائيلية.
والواقع أن تل أبيب لا تعمل فحسب على تدمير القدرات العسكرية للجيش السوري في الجنوب، بل تحرص أيضاً على ضمان عدم عودة قوات النظام أو الفصائل الرديفة له إلى المنطقة مستقبلاً، ما يعني أنها تقوم بتحضير الميدان لترسيخ أمر واقع جديد، يتمثّل في «كانتون» منفصل عن النظام، حتى لو لم يتمّ الإعلان عنه رسمياً ككيان مستقلّ.
ولعلّ استعراض وزير الأمن الإسرائيلي، يسرائيل كاتس، في منطقة الحرمون السوري المحتلّ، يحمل دلالات واضحة ومباشرة، إذ هاجم كاتس من هناك النظام الجديد، والرئيس الانتقالي في سوريا، أحمد الشرع، ليؤكد له أن المقاربة الإسرائيلية تجاه الساحة السورية قد اكتملت صياغتها، وبدأت مرحلة التنفيذ لتحقيق كل أهدافها، بغضّ النظر عن أيّ خطوات أو استعدادات للتطبيع، أو محاولات تطمين كانت دمشق الجديدة قد دأبت عليها.
وأكّد كاتس أن إسرائيل ستبقى في المنطقة لفترة طويلة وغير محدّدة الزمن، مع التركيز على ما قال إنه «حماية سكان هضبة الجولان والجليل» من أيّ تهديدات محتملة من قبل «الجولاني أو الجماعات الجهادية الأخرى المرتبطة به». كما أعلن بدء دمج أفراد الطائفة الدرزية السورية في سوق العمل داخل المستوطنات الإسرائيلية في الجولان المحتلّ، في خطوة تهدف إلى تعزيز العلاقات مع المجتمع المحلّي وتغيير ولاءاته.
تسعى إسرائيل إلى فرض واقع يتناسب مع مصالحها في الجنوب السوري
وفي هذا السياق، تسعى إسرائيل إلى دفع الشرع والفصائل التابعة والرديفة له، إلى التخلّي عن إشارات المهادنة والتقارب، والانتقال نحو إشارات التنافس والخصومة، وإنْ أمكن العداء، الذي تعتقد بأنه يظل قابلاً للاحتواء من دون أن يشكّل أيّ تهديد استراتيجي أو عسكري حقيقي عليها. بتعبير آخر، تريد إسرائيل إيجاد «مبرّر» لبروز عدائية النظام لها، بما يسهّل عليها الاستمرار في تنفيذ استراتيجيتها الطويلة الأمد في سوريا.
إلا أن هناك مَن يعتبر أن مثل تلك المساعي تحمل طابعاً استفزازياً، ولا تبدو ضرورية في هذه المرحلة، في ظلّ الجهود الرامية إلى ترتيب الأوضاع للمراحل المقبلة، وتمهيد الطريق للهدف النهائي المتمثّل بإنشاء منطقة ذات طابع خاص في الجنوب، تكون معزولة عن النظام وتحت النفوذ الإسرائيلي المباشر أو غير المباشر.
وهذه المنطقة ربّما تصبح بمثابة «كانتون» مشابه للمناطق الكردية في شمال سوريا، حيث يتمتّع السكان بقدْر من الحكم الذاتي، تحت نفوذ قوى خارجية، وإن جرى الحديث عن اتفاق «مصالحة وضمّ»، مشكوك في إمكان تنفيذه، بين الأكراد ودمشق.
وضمن هذا الإطار، فإن التطورات الأخيرة في العمليات العسكرية الإسرائيلية على طول الحدود السورية، تُظهر جهوداً متزايدة لترسيخ وجود عسكري دائم وتأمين أهداف استراتيجية طويلة الأمد.
ويتمثّل الهدف الأساسي، هنا، في إنشاء منطقة عازلة بعمق 80 كيلومتراً داخل الأراضي السورية، علماً أن هذه الجهود شملت هجمات جوية واسعة النطاق استهدفت عشرات المواقع العسكرية السورية، في اعتداءات تراكم على أخرى سابقة، ومن شأنها أن تضعف موقع النظام الجديد في المعادلة.
كما لم يكن استحواذ إسرائيل على الحرمون مجرّد خطوة عسكرية، بل هو جزء من استراتيجية أوسع تهدف إلى فرض أمر واقع جديد في الجنوب، حيث قامت القوات الإسرائيلية بتدمير العشرات من الشاحنات المحمّلة بالإمدادات العسكرية، واستولت على معدّات تركها الجيش السوري خلفه، في ما يعكس نيّتها الدائمة تعطيل أيّ محاولة لإعادة بناء القدرات العسكرية للنظام في المنطقة.
لكن، هل تنجح الخطة الإسرائيلية لقضم الجنوب السوري؟ في الواقع، لا توجد أيّ ترجيحات، وإن استطاع الجيش الإسرائيلي تحقيق إنجازات في الميدان لكنها لا توصله إلى تغييرات استراتيجية كبيرة، لأنها ما زالت غير راسخة وعرضة للتغيير اللاحق، خاصة أن الموقف الأميركي من الساحة السورية ومستقبلها، متأرجح، ويميل إلى الدفع نحو إحداث تغييرات دراماتيكية في موقع البلد الجيوسياسي في المنطقة، عبر إلحاقه باتفاقات التطبيع، الأمر الذي يوجب تغيير المقاربة الإسرائيلية لاحقاً.
كيفما اتّفق، تسعى إسرائيل إلى فرض واقع يتناسب مع مصالحها في الجنوب السوري، وهي تعمل في المدى الفوري على ترسيخ وجودها وسيطرتها ومنع النظام الجديد من التحرّك جنوباً وطرده إلى خارج المنطقة، في مسعى يمهّد الطريق أمام استقلال الأخيرة تحت رعايتها.
وفي الوقت نفسه، تنتظر إسرائيل ما ستؤول إليه المقاربة الأميركية للساحة السورية، والتي قد لا تكون كلّها منطقية وقابلة عملياً للتنفيذ، إذ تتعامل واشنطن، كما ثبت إلى الآن، مع كثير من القضايا المعقّدة بطريقة مبسّطة وغير واقعية، وهو ما يعترض أيّ ترجيحات قد تبدو منطقية ابتداءً، بالنسبة إلى استقرار مستقبل التدخّل الإسرائيلي في سوريا، على المديين المتوسط والطويل.
إقرأ المزيد