هواجس الأمن تضرب قطاع البناء: هبوط الأسعار و"فرملة" الورش
لبنانون فايلز -

شهدت أسعار مواد البناء في لبنان تراجعاً ملحوظاً منذ عودة الإستهدافات الإسرائيلية في لبنان في الآونة الأخيرة على نحوٍ مكثف، في ظلِّ انكماشٍ حاد في حركة الإعمار وتراجع القدرة الشرائية لدى المواطنين والشركات، لا سيما تأخر ملف التعويضات. فالورش التي كان يعوّل عليها لبدء مرحلة إعادة البناء، خصوصاً في المناطقِ المتضررة في مختلف المناطق، ما زالت شبه متوقفة، في حين يقتصر العمل على أعمال ترميم محدودة.

هذا الواقع الأمني غير المستقر، إلى جانب الجمود الاقتصادي، انعكس مباشرة على السوقِ، وهذا ما أدَّى إلى انخفاض كبير في الأسعار بعد أن كانت قد ارتفعت على نحوٍ غير مسبوق خلال فترة الحرب.

تراجع الطلب

وفق أحد متعهدي ورش البناء عباس زعيتر، تراجعت أسعار مواد التشطيب بنسبة كبيرة بعد الحرب؛ إذ تقلّص النشاط في قطاع البناء بنحو 50 إلى 55 في المئة. ويشرح زعيتر لـِ "المدن" أن سعر متر الألمنيوم الجاهز (مقطّع ومنفّذ)، من النوعِ العالي الجودة، كان قد بلغ نحو 150 دولاراً للمترِ خلال ذروة الأزمة، إلا أنّه انخفض اليوم إلى حوالي 90 دولاراً فقط. ويضيف: لقد تراجع العمل كثيراً، وأصبح الناس يتندرون على من يشتري منهم، لم يعد هناك استهلاك كما كان سابقاًً فوضع البلد صعب."

ويؤكد زعيتر أن الركود لا يقتصر على الألمنيوم؛ بل يطال الحديد، الرمل، الترابة وكافة مستلزمات البناء، مشيراً إلى أن معظم هذه الموادّ تُستورد من الخارج (كالحديد، الألمنيوم، البلاستيك، الأدوات الصحّية والمجارير)، في حين تنتج مواد مثل الترابة، الرمل والبحص محلياً وتُستخرج من مناطق مثل البقاع والجبة.

لا ورش بناء

من جهته يؤكد صاحب مؤسسة الموسوي لاستيراد الحديد وبيع مستلزمات البناء علي الموسوي، في حديثه إلى "المدن"، أن الطلب على موادّ البناء اليوم في أدنى مستوياته نتيجة التوترات الأمنية في لبنان والمنطقة. ويشرح أن سعر الحديد يحدد عالمياً، وليس بناء على العرض والطلب المحليّين، مضيفاً: أن المشكلة ليست في الاستيراد؛ بل في غياب الطلب أساساً.

ويشير الموسوي إلى أن لبنان يستورد الحديد من مصر، ليبيا وسلطنة عمان، إلا أنّ السوق لم يشهد حتى اللحظة أي حركة إعمار حقيقية بعد الحرب: "ورش البناء في الضاحيةِ عددها صفر… والذي يعمل اليوم يقتصر عمله على الترميم الطفيف، فلا بناء جديد". ويقدّر سعر طنّ الحديد حالياً بين 650 و670 دولاراً أميركياً، بعد أن تجاوز سابقاً 1200 دولار بسبب الاحتكار والمضاربة في الأسواق.

وبالرغم من أن تراجع الأسعار قد يبدو إيجابياً ظاهرياً للمستهلك، إلا أنّه في الواقع يعد مؤشراً خطيراً على جمود الدورة الاقتصادية وغياب الاستثمار في قطاع حيوي يعتبر محرّكاً لعشرات المهن والمجالات المرتبطة به. وما دام الانخفاض ناتجاً عن انعدام الطلب لا عن خفض تكاليف الإنتاج أو تحسّن في السوق، فهذا يعني أن القطاع دخل مرحلة شلل شبه تامّ، تترافق مع خسائر مباشرة لآلاف العاملين في مجال البناء والمقاولات والورش اليومية.

ويمكن القول إن الركود الحالي يضاعف التحديات المالية والاجتماعية في المناطق المتضررة من الحرب؛ إذ أن توقف الإعمار يعني تجميد مشاريع صغيرة ومتوسطة، وفقدان وظائف لآلاف العمال، إضافة إلى هجرة محتملة للمهندسين والفنيين المهرة إلى الخارج بحثاً عن فرص أفضل.

كما يحذّر خبراء من أنّ أي تمويل خارجي محتملٍ لعمليات إعادة الإعمار، في حال وظف من دون معالجة الأسباب البنيوية للأزمة، قد يؤدي إلى "تعاف وهمي" قصير الأمد، سرعان ما ينهار مع أول هزة أمنية أو سياسية جديدة، لتظلّ البلاد في حلقة مفرغة من الركود والشلل.

تراجع الأسعار… أزمة لا تعافٍ

في ختام حديثه، يلاحظ زعيتر أن الانخفاض الحادّ في الأسعار لا يعكس أي تحسن حقيقي في القدرة الشرائية أو في السوق ويقول: إن الاسعار تراجعت لأن الأعمال متوقفة، حتى أولئك المليئين مادياً يتردّدون اليوم بالإنفاق بسبب عدم وضوح الرؤية في المرحلة المقبلة.

من جهته، أوضح أحد المتضررين أبو ربيع برجاوي لـِ "المدن"، وهو صاحب سوبرماركت في منطقة بئر العبد في الضاحية الجنوبية، أن "المبنيين الملاصقين للدكان تعرّضا لاستهداف مباشر، وحتى المبنى الذي يقع فيه المتجر لحقته أضرار كبيرة نتيجة هذه الاعتداءات. وأصبح الزبائن يخشون الدخول خوفاً من تساقط أي بقايا من الركام. وبعد وقف إطلاق النار، قرّرت مباشرة ترميم المتجر، إلا أنني تراجعت عن الفكرة بسبب الاعتداءات الإسرائيلية المتكررة، وفضّلت العمل بالإمكانات المتاحة فقط لتسيير الأمور، من دون تكبّد تكاليف إضافية للواجهات أو الديكور.

ويقول "أصلحتُ ما استطعت كي أتمكن من متابعة العمل من دون مصاريف إضافية، خصوصاً أن المبنى مصنّف كهدم جزئي، وثانياً، قد يؤدي أي عدوان جديد إلى خسارتي كل مصدر رزقي… فلا شيء يمنع استئناف الحرب"

وكما برجاوي يروي أيضاً صاحب متجر لبيع الألبسة في منطقة حيّ القائم في الضاحية الجنوبية، حسين مروة، لـِ"المدن" أنّ المنطقة تعرّضت لعدة اعتداءات قبل اندلاع الحرب بشكل رسمي، وعندها قررت استئجار محل في منطقة الحمرا، وهي المنطقة التي نزحنا إليها خلال الحرب. ويقول: حاولت نقل جزء من البضائع التي كانت موجودة في المستودعات، وهذا ما ساهم في تخفيض حجم الخسائر. وبعد انتهاء العمليات العسكرية، عدتُ إلى المنطقة، وتبيّن أن الخسائر تُقدَّر بحوالي 50 ألف دولار، بين دمار في الديكور، وتلف واجهات الزجاج وغيرها من الأضرار. ويتابع: تركتُ المحل على حاله، ولا أنوي ترميمه في الوقت الراهن، لأسباب مادية وأمنية. وقد نقلت مصدر رزقي إلى الحمرا، وأرجأت فكرة العودة إلى الضاحية في المرحلة الحالية."

هذا المشهد يعكس حقيقة مزدوجة: فبينما قد يفرح البعض بانخفاض أسعار مواد البناء، إلا أنّ ركود حركة البيع والقلق الأمني يحمل في طياته انعكاسات اجتماعيةً وأمنية خطيرة، قد تؤثر على استقرار القطاع العقاري والبنية التحتية على المدى المتوسط، مع بقاء لبنان في دوامة من الخوف من انهيار مشاريع كبيرة متوقفة، وتجميد لمستقبل الاستثمار في البناء الذي لطالما كان أحد أعمدة الاقتصاد الوطني.

فاطمة البسام - المدن

The post هواجس الأمن تضرب قطاع البناء: هبوط الأسعار و"فرملة" الورش appeared first on أخبار الساعة من لبنان والعالم بشكل مباشر | Lebanonfiles | ليبانون فايلز.



إقرأ المزيد